اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > صور جاسم الزبيدي: الحياة..كما هي

صور جاسم الزبيدي: الحياة..كما هي

نشر في: 12 فبراير, 2023: 10:31 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

صدر مؤخراً كتاب عن المنجز التصويري لجاسم الزبيدي (1940 -1991) المصور الفوتوغرافي العراقي المعروف بعنوان "جاسم الزبيدي الثائر بعدسته" (2022) لمؤلفه <هيثم فتح الله عزيزة>،

وقد صدر في عمان/ الاردن عن <مطابع دار الاديب> (عدد الصفحات 304 صفحة من القطع الكبير وبغلاف سميك)، وبهذا الاصدار فان المؤلف <هيثم عزيزة> (1955) اضاف جهدا آخر: مميزا ونافعا الى ذخيرة ادبيات النشر التصويري العراقي. اذ سبق للمؤلف ان اصدر كتاباً عن "مراد الداغستاني بين الفن البصري والتشكيل الفوتوغرافي" عام 2020، عن نفس "مطابع دار الاديب". كما نشر قبل ذلك عدة كتب تتعاطى مع خصوصية الفن الفوتوغرافي وتاريخه.

في الكتاب الذي نسعى الى عرضه للقارئ الكريم يتضمن عدة محاور، اختارها المؤلف لتكون "سرديته" المنشورة عن منتج جاسم الزبيدي التصويري. ومن خلال تلك المحاور يقدم <هيثم عزيزة> لنا جاسم الزبيدي وهو يخوض "اسفاره" الحياتية العديدة ولاسيما مشاركته ومصاحبته لـ "ثورات" شعوب مسحوقة تتطلع نحو مستقبل افضل، باذلة الغالي والرخيص من اجل تلك القيم والمبادئ التى تؤمن بها. وصور (هل اقول "لوحات"!) جاسم الزبيدي معنية اساساً في "عكس" تلك الاحوال المعاشة بصور تتسم على حساسية مرهفة، مثلما تنطوي على درجة عالية من الاناقة والجمال الانساني "المعكوس" في تلك الصور الفوتغرافية!

تشغل غالبية "المتن" التصويري للكتاب، صور وثائقية تحكي احداث <ثورة> ملتهبة ابطالها اناس عاديون: نساء ورجال وحتي شيوخ..واطفال. لكن هذة "الثورة" التى يسعى جاسم الزبيدي وراء "تسجيل" احداثها البطولية، لم تكن مرتهنة في مكان واحد او في منطقة جغرافية بذاتها. فاحداثها: "احداث صورها" تغطي مساحات شاسعة من النضال الانساني وتبعث رسائل مهمة وعديدة الى الجميع من ان الظلم والجور، والاضطهاد والحيف، والطغيان والقهر، وعدم المساواة، "المتجسدة" تصويرياً بمهنية عالية من خلال عدسة المصور الفوتوغرافي النشيط، لا يمكن لها ان تدوم طويلاً. ولئن التقط جاسم الزبيدي تلك الحالات وأظهر نتائجها الكارثية المفجعة وصورها تصويرا متقنا، فما هذا سوى نوع من "توثيق" لتلك الحالات الظالمة..والمظلمة، والتى يتيعن التذكير بها وعدم تغييبها من المشهد لجهة العمل الدؤوب لازالتها واِستِئصالها بهمة ونشاط اولئك الناس البسطاء الشجعان.

ينتشر "مسرح" احداث الصور المنشورة، أذاً، وكما اسلفنا، في امكنة مختلفة، تمتد من الاراضي الفلسطينية، لتشمل احداث اليمن الجنوبي (جمهورية اليمن الديمقراطية)، وكذلك ارتيريا ابان انتفاضتها ضد الحكم الاثيوبي، مروراً بشخوص ثورة ظفار في عمان، إضافة الى المسرح التراجيدي العراقي وقت حرب الثمانينات العبثية، وكل ذلك، كل تلك الثورات والانتفاضات والاحداث بنسائها ورجالها وأطفالها وشيوخها، حاضرة بقوة وبتقنية عالية وبلقطات مهنية مبدعة في الكتاب.

ما يميز الصور المنشورة، او بالاحرى ما يغلب على الصور الملتقطة من قبل جاسم الزبيدي، هو حضور لقطات "وجوه" وليس لقطات مناظر البيئة المحيطة. اذ تغدو تلك الوجوه الناظرة نحونا (نحو المصور) بكل انفعالاتها وقسماتها و"إكسساوراتها" اللافتة، وكأنما تتساءل عن اثمها المرتكب، الذي اوقعها بتلك الحالة المزرية، كأنها تستفسر عن خطيئتها وهي ناظرة مباشرة في "عين" عدسة المصور، متسائلة عن ذنبها ومعصيتها التى احالت حياتها وحَيَوات افراد عائلتها الى عذاب لا يحتمل وفقر مدقع! كأنما يبتغي جاسم الزبيدي بتلك اللقطات المؤثرة ان ينقل لنا تلك التساؤلات الصارخة ويجعلنا شهوداً للمرارات الانسانية الموثقة في تلك اللقطات المتساءلة. ومع بؤس الحياة المعروضة في نماذج الصور المنشورة ومع معاناة اصحابها وعذابات شخوصها، تبقى تلك "الوجوه" (النسوية منها خصوصاً) تشع نبلاً وكرماً انسانيين و.. جمالاً آسراً ايضاً. فنظرات عيونها الواسعة وطريقة ايماءات جسدها ويديها، ومفردات "حليها" وزينتها، ومصاحبتها، احياناً لاطفالها الصغار العذبين الظرفاء تمنحنا شعورا بالالفة والحميمية، وتذكرنا بقيمة الهواجس الانسانية المشتركة التى تربطنا معاً ونتذاكرها سوية. كأن جاسم الزبيدي بتلك اللقطات الخلاقة يستدعي، ايضاً، مقولة كارل ماركس، عندما يذكر الاخير عبارته المجنحة: <ليس من ثمة سجية انسانية.. بغريبة عليً>!

من ضمن الصور المميزة في الكتاب، الصورة المنشورة على الصفحة 21، والتى اختارها المؤلف لتكون "صورة الغلاف" لكتابه القيّم. والصورة اياها أعتبرها شخصيا من روائع صور جاسم الزبيدي، إن لم تكن من روائع الفن الفوتوغرافي العراقي بالعموم. انها ملتقطة، على ما يبدو، في ارتيريا ابان مشاركة جاسم الزبيدي لمناضليها اثناء انتفاضتهم ضد السيطرة الاثيوبية. ثمة أمرأة مُسِنّة تمد يدها (تمد راحة يدها) لتلامس اصبع ليد آخرى ممتدة نحوها. لا نرى شخصية صاحب اليد الممدودة التى تلامس راحة يد المرأة المُسِنّة، هي التى تظهر في الصورة وقد غطت جزءاً من وجهها بشال الرأس الذي ينسدل على جسمها. نرى جانباً من وجهها المغطى بذلك الشال، ممسكة بيدها الاخرى ركبتها التى تتكأ عليها وهي جالسة في ارض تبدو مزروعة بحشائش يابسة. ثمة تضاد قوي يخلقه المصور بين شكل المرأة الظلي "السلويتي" Silhouette واليد الممدودة من جهة، وبين" ضبابية" مفردات الصورة الآخرى من جهة ثانية. انه ينزع لتكون حركة اليدين المعبرة التى اجترحها، بمثابة <بؤرة النظر> والمركز البصري لصورته الملتقطة بحنان وحميمية واضحتين. بمعنى آخر، "يتلاعب" المصور المقتدر باتساع فتحة العدسة لبلوغ مراميه الفنية في الحصول على اكبر قدر من التركيز للعناصر الاساسية في صورته المدهشة.

ثمة ايماءات واستدعاءات، يسعى المصور العراقي الى استحضارها في تلك اللقطة التصويرية المبدعة. انها تذكرنا، على سبيل المثال، بثيمة لوحة:"خلق آدم" (1511) التى رسمها "مايكل انجلو" (1475 -1564) فنان عصر النهضة الايطالي العظيم، وهي جزء من فريسكو مصور على سقف "كنيسة سستينا" Sistine Chapel في الفاتيكان. في تلك اللوحة المشهورة، ووفقاً لقصة الخلق التوراتية، تمتد يد الاله نحو آدم مانحاً اياه شرارة الحياة، ولكن من دون ان تلامس يد الاله اصابع يد آدم المستلقي. في صورة جاسم الزبيدي تحصل تلك الملامسة بين المرأة المُسِنّة وصاحب اليد الممدودة. وكأن "الزبيدي" يتوق بالنأي بنفسه عن <رمزية> عدم التلامس لدى مايكل انجلو، بذهابه بصورة واضحة نحو بلاغة تشكيلية جديدة، يبتغي بها التعبير، بفعل مباشر، عن حضور مفهوم التراحم والتعاضد والرأفة الشائعة لدى اولئك الناس الفقراء! في نصوص الكتاب المنشور، يتطرق المؤلف ايضا الى هذة اللوحة التصويرية الفنية الرائعة، ويوليها اهتماما معيناً كما يرجعها ايضا الى لوحة فريسكو سقف كنيسة سستينا، ويفسرها تفسيرا خاصا، مما يثري من قيمة الصورة الملتقطة الموحية والمؤسسة لتأويلات عديدة.

في الكتاب ثمة لقطات لموضاعات آخرى غير التى ذكرناها. انها لقطات لمدينة بغداد وعمارتها المميزة، إن كانت تقليدية ام حديثة. وفي تلك اللقطات ذات التكوين الزاخر بوجود الاشخاص، يقدم لنا جاسم الزبيدي مقدرته الكبيرة في تسجيل يوميات المدينة وهي تعيش حياتها العادية، موثقاً بذلك الذاكرة الحضرية المحلية في منتج الفن الفوتوغرافي العراقي. في بعض تلك الصور المنشورة "احس" شخصياً بتأثيرات المعلم "ناظم رمزي" (1928 – 2013) واسلوبه المميز في الصور المنتجة. وفي ظني فان تلك التأثيرات اغنت صور الزبيدي ورفعت من قيمتها الفنية. وبالمناسبة فان جميع الصور المعروضة في الكتاب هي صور بالاسود والابيض، وهي، بهذا تسترجع، كذلك، "ولع" رمزي واهتماماته العميقة في صور "الاسود والابيض"!

لقد قدم "هيثم عزيزة" في كتابه النافع والمفيد..والجميل ايضا، هدية رائعة الى منجز الفن الفوتوغرافي العراقي، مثرياً ذخيرته بمؤلف راقٍ وحصيف سواء كان ذلك لجهة مضمونه الغزير ونماذج صورة الرائعة ام لناحية اسلوب طباعته الفنية عالية المهنية. واشعر بامتنان شخصي كبير لما اقدم عليه صديقي المؤلف، تجاه واحد من اهم المصوريين الفوتوغرافيين العراقيين. لقد عرفت جاسم الزبيدي عن قرب وكنت دائما اطري منتجه الفني المشوق. فقد كان ضيفاً دائماً ضمن "حلقتنا" المصغرة على مائدة نادي اتحاد الادباء ببغداد التى ضمت ايضا (المرحومين الان) "سامي محمد" و"رياض قاسم" واخرين. ولطالما كان جاسم الزبيدي، "المتسلح" دوما بعدة التصوير والجاهز لممارسة عمله، يحكي لنا باستمرار انطباعاته و"مغامراته" التصويرية في تلك البيئات الخطرة التى ابدع لنا فيها كماً غزيراً من منتج تصويري لافت ومميز.

وفي الختام، فان أهمية حدث ظهور هذا الكتاب اليوم في منتج المشهد الثقافي العراقي وخطابه تعد من الاحداث ذات الشأن وتحمل دلالات رمزية خاصة. فحدث الصدور وإن أغنى ذلك المشهد وتنويعاته الاسلوبية الابداعية. الا اننا نراه ايضاً بمثابة مثالا وحافزا للمؤسسات العامة العراقية للاهتمام بابدعات المبدعين العراقيين ايا تكن إتجاهاتهم ومقارباتهم، والتى نرى لديها (لدى تلك المؤسسات) قصورا واخفاقات غير مبررة في هذا الجانب.

شكرا هيثم، لمبادرتك وحسن اختياراتك!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram