الى جاسم الاسدي
طالب عبد العزيز
حتى وقت قريب- وفي الطفولة بصورة أدق- توقَّفَ الخوفُ عندي على صورة الغابة، الغابة المُتخَيلة في قصص الجدّات، أو المسموعة في الحلم، والمشاهدة في الرسوم المتحركة، ربما. أقول حتى وقت قريب، لأنني، لم أفق من طفولتي تلك إلا متأخراً، وربما لم أفق بعد،
ففي أمكنة مُشْجِرة، كثيفة، كثيرة رأيتها.. كان الخوف ذاك يعاودني، مثلما تعاودني الطفولة ذاتها، ايضاً. لكنَّ الخوفَ والطفولةَ معاً شيء جميل! أنْ تخافَ وأنت طفل يعني هناك من يفزع اليك، ويأتي ليخلصك مما تشابك حولك، وتراءى لك من الوحوش، لكنْ، أنْ تخافَ وقد تجاوزتَ الطفولة الى تذكِّرها لا غيرَ، لهو الرعب بعينه.
كانت صورة خبير المياه والاهوار، الناشط المدني جاسم الاسدي، وهو يختزل جسده في بدلة بسيطة، بدلة اختطافه، ولا يقوى على تحرير كلمة، محاطاً بأفراد أسرته المائية، بعد إطلاق سراحه، هي ما عناني في كتابة المقدمة الطللية أعلى السطور هذه. أما صورته وهو يقفز من الزورق، طائراً الى الماء، منتشياً فهي الأكثر طفولة من كل ما رأيته في احلامي، كان الجسد الذي قارب السبعين عاماً مفعماً بانتصار ما، منسجماً مع لحظة علوية، طارت به، كيف لا، وقد كان أول الفرحين بعودة المياه الى الاهوار بعد احتباسها الطويل، صورة الجسد وهو عالق بين الزورق والماء هي الاكثر صدقاً بين كل قول عنه. نحن لا نسترد طفولتنا إلا في لحظات نادرة، ذلك لأنها تنزوي في ركن ما من الحلم، تظل قابعةً بين أشجار الحلم الأولى، هانئة بالخوف المعلوم، الذي سينجلي بعد وصول الأكف الاولى.
بعد إطلاق سراحه، وفي المقطع الصوتي الذي تداولته الاسماع بدا جاسم الاسدي منهكاً، تحدث عن تعذيب جسده بالضرب، وعن تعليقه من يديه، وعن عصْب عينيه، وانتقاله من مكان مظلم الى آخر مظلم ايضاً، فكان منكسراً، يكثر من شكر الذين أسهموا في فك اختطافه، ثم أنه راح يكرر الشكر، حتى بدت كلماتُه بشكرهم أكثر من حديثه عن ما أصابه وصار اليه. يقول فرناندو بيسوا:" خلال سنوات مديدة، سافرت بحثا عن طرق في الاحساس. والآن، ما دمت قد رايت كلَّ شيءٍ، واحسست بكلِّ شيءٍ، يتوجب علي ان انكفئ على نفسي، ان اشتغل قدر مستطاعي في كلِّ الميادين التي اطالها، لدفع الحضارة نحو التقدم، وتوسيع وعي الانسانية».
لا تمنحنا المواقعُ الالكترونية صوراً لجاسم الاسدي إلا تصاويره التي يظهر فيها مستقلاً زورقاً، يجذِّفُ فيه، أو يوجّهه ناحية ما، وسط غابة الماء والقصب والشموس، التي تحيطه، لكأن الرجل لم يُرَ على اليابسة.كثيرون مثلنا لم يسمعوا به ربما، قبل حادثة اختطافه، مع أنَّ أسرته المائية تعرفه بوصفه واحداً من خبراء البيئة والاهوار، وأنَّه ظل يسعى بجهده الشخصيِّ الى إعادة الحياة للطبيعية هناك، وبما ينتفع به قومُه، بما بين أيديهم فيها. إذن كان الاسدي قد استوفى معاني وجوده وغرضه الشخصيِّ، فذهب الى ما هو انساني وأبعد من ذلك. لكنه، اصطدم بوحوش الغابة غير المحلوم بهم، فأخذوه الى أقبيتهم، في لحظة يئسَ فيها من الايدي التي تهبُّ لإنتشاله. كان الاسدي لحظتئذ قد تجاوز احساسه بلحظة غابة الطفولة الى تذكِّرها بين الايدي التي انهالت عليه بالضرب طوال خمسة عشر يوماً.