ستار كاووش
ماذا يفعل بلد مثل هولندا فيه تسعمائة متحف تقريباً، ليضيف الجديد الى متاحفه؟ فهنا متاحف من كل نوع، تضم بين قاعاتها تفاصيل لا تخطر في بال أحد، متاحف تَعرِضُ جمالاً من نوع مختلف،
جمال له علاقة بروح البلد وتقاليده وتاريخه وحبه لأرثه الحضاري وإهتمامه بكل التفاصيل التي تشكل ثقافته. فإضافة لمتاحف الفن التشكيلي، هناك متحف للحقائب وآخر للجبن، متحف للطواحين يقابله متحف للقباقيب الخشبية… ومتاحف أخرى تشمل كل شيء تقريباً. ووسط كل ذلك يأتي تساؤل حول كيفية ابتكار وإنشاء متاحف جديدة تجذب الناس وتروي شغفهم وفضولهم المعرفي والجمالي. وجاء الجواب عبر معرض جديد إنشغلت كل هولندا به، كي يرى النور أخيراً. معرض يشير الى عمومِ هولندا وعاداتها وسنواتها الماضية، معرض يضع أمام الناس حكاية هذا البلد الذي يغفو على الجمال ويحلم بالإبتكار. وهكذا أقيم معرضاً غريباً ويحمل إسماً طريفاً هو (المتحف الهولندي). فما حكاية هذا المعرض الذي أقيم في متحف كنست هال بمدينة روتردام؟، وما الذي ضمَّهُ بين قاعاته الخيالية الواسعة التي إمتدت الى الى الهواء الطلق حيث تستقر المعروضات الكبيرة التي لا تتسع القاعات لها؟. قبل المعرض بأكثر من سنة قامَ منظمي المعرض بمطالبة الناس في هولندا بجلبِ أي شيء لديهم يشير الى الثقافة أو التقاليد الهولندية، أشياء لها خصوصية وتربط الناس ببعضهم وببلدهم، أشياء تعمق الصلة بين الناس وتاريخهم، وتحمل نوعاً من العاطفة حين يتشاركون. وهكذا بدأ الناس من كل أنحاء هولندا بجلبِ ما بحوزتهم من مفردات يرون إنها تستحق أن تدخل هذا المتحف. وتشكلت لجنة كبيرة متخصصة لقبول المعروضات أو رفضها. فيما إنشغلَ التلفاز لأيام عديدة بعرض لقاءات مع الأشخاص وهم يتحدثون ويروون قصصهم عن الأشياء التي بحوزتهم. أشياء قديمة وجديدة، لم يخطر في مخيلة أحد بأنها موجودة، وقد أزال عنها المواطنين الغبار لعرضها على لجنة المتحف. هنا إختلطت الطرافة بالجمال الممزوج بتقاليد البلد، هنا ترى تاريخ طويل للأراضي المنخفضة بين قاعات هذا المتحف، ومن خلال الأشياء التي عُرِضَّتْ يمكننا أن نقرأ الكتاب الذي سطر أيام الناس وذكرياتهم، ونتحسس الظروف التي جعلت عودهم يشتد، ويصبحون بلد التسامح والمحبة والقوة، مثلما هم بلد الإنفتاح المعجون ببساطة الناس ونظراتهم الطيبة.
هكذا أفتتح المعرض الذي رأيتُ من بين معروضاته أشياء لم أتوقعها. وقفتُ أمام أول المعروضات، والذي لم يكن سوى ثوباً يحمل ألوان العلم الهولندي بلونه الأزرق والأحمر والأبيض، قامت بخياطته امرأة في صبيحة يوم تحرير البلد من النازية سنة 1945، وقد أحضرته إبنتها الى المتحف. وفي زاوية أخرى من المعرض استقر صندوق حديدي صغير نجا من الحرب العالمية وفيه رسالة مؤثرة كتبها رجل الى زوجته، ومصحوبة بصورتهما معاً. كذلك هناك آلة يدوية صغيرة لصنع الكعك الهولندي تعود الى سنة 1660، وبجانبها أيضاً كتاب طبخ يحمل وصفات الأكل الهولندي قبل بضعة مئات من السنين. أمضي قليلاً في المعرض، فأرى حقيبة سفر قديمة تعود لرجل مغربي، جلبها معه الى هولندا سنة 1969، وهي إشارة الى تعدد الثقافات في هولندا واستقبال هذا البلد لناس من مختلف الأماكن. أتجول في المتحف فأتوقف عند منصة صغيرة إستقرت فوقها الدراجة الهوائية التي إستعملها بطل هولندا والعالم في سباق الدراجات سنة 1986. فيما وُضعَتْ في ركن صغير، حقيبة نجت من تحطم الطائرة الهولندية التي سقطت في أوكرانيا، وهذه الحقيبة التي جلبها رجل وإمرأة، تحتوي على صورة إبنتهم التي لاقت حتفها في الحادث، حيث تعود لها الحقيبة، مع بعض النقود وكتاب صغير إضافة الى جواز السفر. أتابع المعروضات فأرى أدوات الولادة القديمة التي كانت تستعمل في هولندا، وقد أخذت لها مكاناً في هذا المعرض. ثم أتوقف عند بدلتين، وأعرف انهما تعودان لأول زواج بين مثليين في العالم، والذي حدث في هولندا. أتوقفُ فألمحُ من خلال نافذة المتحف كارافان قديم في الخارج، وبجانبه طاولة صغيرة، وهو يعود لسنوات بعيدة حيث كان غالبية الهولنديين يمضون سفراتهم في هولندا وخارجها في مثل هذا الكرفانات التي يربطونها خلف سياراتهم، دون حاجتهم للفنادق. وهكذا أخذت المعروضات الأخرى أماكنها ايضاً، مثل النموذج الصغير لواحدة من سفن هولندا التي تعود للقرن السادس عشر، ومروراً بآلات قديمة كانت تستعمل لقطع الأخشاب، وليس إنتهاءً بمكبس البطاطا الذي من خلاله يتم تحضير أشهر أكله هولندية عبر التاريخ وحتى هذا اليوم، والتي يسمونها (ستامب بوت) حيث تُعجن البطاطا المسلوقة مع أنواع مختلفة من الخضروات وتؤكل ساخنة مع الصوصج. تفاصيل كثيرة ومفردات لا حصر لها تضع بين أيدي الناس من جديد، تاريخ بلدهم الذي بنوه وتقاسموا جماله قرون طويلة. فتاريخ البلد يصنعه الناس الرائعين عادة، لكن الأشد روعة منهم، هم هؤلاء الذين يحافظون على ما تركه الأجداد من أرث جمالي وثقافي، يمس قلوب الناس ومشاعرهم ويربطهم مع هذه الأرض