TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > القوى الأربع التي تهيمن على العالم

القوى الأربع التي تهيمن على العالم

نشر في: 20 فبراير, 2023: 11:38 م

باتريك أولناس *

ترجمة:عدوية الهلالي

يخضع المجتمع البشري في القرن الحادي والعشرين لقوى لديها القدرة على تحديد مستقبله التاريخي. وتتشكل اليوم أربع قوى رئيسية هي: الدول، والرأسمالية، والأديان، والعلم، لكن أنماط عمل هذه القوى الأربع ليست متطابقة فالأولان يشكلان قوى، والآخران هما أقطاب التأثير.

ولطالما كان هذا الانقسام بين القوة والتأثير موجودًا، لكنه أصبح أكثر تعقيدًا على مدار تاريخنا.وتتفاعل القوى الأربع لتشكل نظامًا متطورًا وغير مستقر للغاية يجد في كل لحظة من التاريخ توازنًا مؤقتًا يسمح للانسان بالتكيف. ولكن بما أن التطورات كانت سريعة بشكل متزايد على مدى القرنين الماضيين، فإن توازن العالم الحالي يبدو أنه غير مستقر ويولد الخوف من المستقبل. ومن الطبيعي تمامًا أن يثير عدم تحديد المستقبل مخاوف غير عقلانية، لكن الخطر الرئيسي يكمن في استغلاله من قبل إحدى القوى الأربع.

لقد عزز التاريخ تدريجياً دور النظام الإنتاجي (الرأسمالية والعلم) الذي كان في الأصل بسيطًا للغاية ولم يلعب سوى دورا ثانويا، على الأقل في المدى التاريخي القصير. لذلك فإن النظام المعياري (الدول والأديان) يتمتع منذ فترة طويلة بالسلطة الكاملة تقريبًا.

وفي العصور القديمة والوسطى، تم دمج القوى السياسية والاقتصادية بشكل أو بآخر.فقد كانت القوة الاقتصادية في مصر القديمة في أيدي الفراعنة والأرستقراطيين. وكان الأمر نفسه في روما. وكان النبلاء الذين احتفظوا بالسلطة السياسية أيضًا مالكي العقارات الكبيرة والعبيد الذين يشكلون الجزء الأكبر من الاقتصاد. وفي العصور الوسطى، كان التنظيم الإقطاعي قائمًا على التسلسل الهرمي للإقطاعيات التي يقودها النبلاء اذ يمارس اللورد على إقطاعيته السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية وقد كان قطب النفوذ الوحيد طوال هذه الفترة هو الدين فالعلم غير موجود. وبالتالي فإن مخطط القوى لا يتألف إلا من عنصرين فقط: القوة السياسية الاقتصادية التي تقع بين أيدي أقلية صغيرة (الملوك والأرستقراطيين) ؛ وقطب نفوذ واحد هو الدين اذ يلعب الدين الرسمي دورًا رئيسيًا لأن محتوى القواعد القانونية يجب أن يحترم التعاليم الدينية بدقة. وإن ظهور التوحيد المسيحي، بمحتوى أخلاقي أكثر دقة وتقييدًا، سيعزز الدور السياسي للدين في العصور الوسطى.

ومنذ عصر النهضة، في القرن الخامس عشر، شهد الغرب اضطرابات كبيرة. ففقدت الطبقة الأرستقراطية في العصور الوسطى قوتها تدريجياً وتشكلت الدول القومية. وإلى جانب الاقتصاد التقليدي، القائم على العقارات الريفية الكبيرة والحرف الصغيرة، ظهرت الرأسمالية في القرن الثامن عشر وأصبح البحث العلمي نشاطا في حد ذاته، وهو ما لم يكن عليه من قبل. فقد كانت الأرستقراطية في ذلك الوقت تعتبر العلم فنًا، مساويًا للشعر أو الرسم. وكان تطبيق التقنيات الجديدة غريبًا تمامًا على الأرستقراطيين في العصور القديمة. يكمن أحد أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس في عدم القدرة الثقافية لهذا الهيكل السياسي الهائل على استخدام العلم والتكنولوجيا لتعزيز اقتصادها. وسوف يستغرق الأمر ألف عام من العصور الوسطى، من القرن الخامس عشر فصاعدًا، ليدرك الأفراد ببطء أن أفعالهم يمكن أن يكون لها تأثير حاسم على مستقبلهم التاريخي..وقد سمح التقدم العلمي والتقني بظهور قدرة إنتاجية أكبر بكثير (ثورة صناعية) تتطلب وسائل تمويل كبيرة وهنا ولدت الرأسمالية وسوف تستخدم الرأسمالية العلم بشكل منهجي لتأسيس قوتها. واذن فقد تشكلت القوى الأربع التي لا تزال تهيمن على العالم من القرن التاسع عشر.

كما ولدت الأيديولوجيات في القرن التاسع عشر وكانت الماركسية هي الأيديولوجية الوحيدة التي كان لها تأثير هام وكانت تقترح رؤية للتاريخ تقوم على فكرة الصراع الطبقي الاجتماعي. ومع بداية القرن الحادي والعشرين،كان هناك عدد قليل من الدول التي لا تزال تدعي الماركسية، لكن هذه ديكتاتوريات بغيضة ستختفي عاجلاً أم آجلاً. وستتخلى الصين تدريجياً عن العقيدة الماركسية بسبب نجاحها الاقتصادي، الذي يتطلب المرونة والقدرة على التكيف.وفي الدول الديمقراطية، لعبت الأحزاب الشيوعية والاشتراكية دورًا مهمًا كقوة ضد الرأسمالية. فقد دفعوا الدول للتدخل في الاقتصاد، وبالتالي تحويلها إلى مراكز قوة اقتصادية، إلى جانب الرأسمالية. ولايمكن اعتبار الاشتراكية والشيوعية البناة الوحيدين لدولة الرفاهية، لكنهم أثروا على التوجه في هذا الاتجاه.

واليوم، اختفت الشيوعية تقريبًا وتكيفت الاشتراكية مع الحقائق من خلال التخلي عن معظم أيديولوجيتها التقليدية.وعندما تتفاعل القوى، فإنها تسعى إلى زيادة قوتها أو تأثيرها على السلطات. وقد نشأت ثلاث مواجهات رئيسية منذ قرنين إلى ثلاثة قرون ولا تزال قائمة: فالنظام الإنتاجي يزيد من قوته تاريخيًا على حساب النظام المعياري. وتقدم العلوم والتكنولوجيا قراءة للكون تضعف الأديان والأيديولوجيات ؛ وتستفيد الرأسمالية من أخطاء الدول ومن ضعفها نظرًا لأن الرأسمالية تتميز دائمًا بمرونتها وقدرتها على التكيف، فيمكنها أن تعمل في سياقات سياسية متعددة، بشرط ضمان يقين قانوني معين. ففي الغرب، أدركت الرأسمالية بسرعة كل المزايا التي يمكن أن تجنيها من السلطات العامة الغنية والمبذرة. وهؤلاء هم الآن من بين أهم عملائها بالنظر إلى حجم الاستثمار العام ونفقات التشغيل الإدارية. لكن إذا أضفنا إلى هذا نظام الحماية الاجتماعية بأكمله (الصحة، الأمومة، التقاعد، البطالة، الأسرة) الممول من الضرائب الإجبارية، فيمكننا الحصول على فكرة ملموسة إلى حد ما عن طريقة الحياة بين الدول والرأسمالية في الديمقراطيات الغربية. ومع ذلك، فقد شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين تطورًا رئيسيًا يسمى العولمة. وهذه الظاهرة المعقدة والمتعددة الوجوه تزعزع استقرار الدول وتستفيد منها مجموعات رأسمالية كبيرة.

ولم يتم ذكر الليبرالية حتى الآن فهي لا تنتمي إلى أي من القوى الأربع التي تهيمن على العالم،لأن الليبرالية هي الدفاع عن الحرية ضد كل القوى التي تسعى إلى استعباد الانسان.ورسالتها هي تعزيز التوازن بين السلطات لمنع إحداها من السيطرة على الآخرين فمن الأفكار القوية للمفكرين الليبراليين توزيع السلطة. وقد اقترح مونتسكيو، من القرن الثامن عشر، مبدأ فصل السلطات الذي يمكن تعميمه. اذ يجب توزيع القوة قدر الإمكان، وفي عالم القرن الحادي والعشرين على الأقل، يجب الحفاظ على توازن مرضٍ بين القوى الأربع.

إن وجود الرأسمالية في مواجهة الدولة ضروري للحريات، كما أثبت تاريخ القرن العشرين، وهو تاريخ الصراع بين الديكتاتوريات والديمقراطيات.فقدخدمت الرأسمالية الديمقراطيات أكثر من الديكتاتوريات. لكن الجوهر الصلب للليبرالية يكمن في الحرية الفردية، أي في الإمكانية المتاحة لكل إنسان ليحكم ويتصرف بنفسه،فحرية الضمير والحريات السياسية والحريات الاقتصادية المنسوبة إلى كل فرد فقط تؤدي إلى توازن بين القوى لأنها تسمح لكل إنسان بالإيمان والاختراع والتصرف.

* كاتب ومحلل سياسي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

في طبيعة المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية ومهامه

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram