عباس عبيد
يتمنى الناس لأوطانهم الأمن والسلام. تلك حقيقة بديهية. لكن ليس بإمكان الأمنيات أن تمنع كارثة طبيعية من أن تحدث. للطبيعة سطوة قهرية. تختار بنفسها الزمان والمكان، وتهجم فجأة، لتمعن في تدمير أرواحنا، وبيوتنا، وعلاقاتنا الإنسانية بقسوة مفرطة. إن عبارات من قبيل: "لن تصيبنا كارثة، نحن بعيدون عن منطقة الخطر" قد تفلح في تطمين/خداع النفس، غير أنها لن تنفعنا بشيء لحظة حصول المأساة. ستجعل، فقط، قائمة خسائرنا أكبر حجماً.
نعم. كانت مشاكل العراق الكبرى في المئة عام الماضية بشرية لا طبيعية، فهو لم يسبق أن تعرض لزلزال هائل، ليس فيه براكين أيضاً، وأخطار الفيضان تراجعت بمشاريع أنجزت في العهد الملكي، كما لا توجد فيه غابات لتحترق. كل ذلك صحيح، لكن ماذا لو حدث زلزال كبير بالفعل؟ تركيا تجاورنا من الشمال، وإيران من الشرق، جارتان لهما تاريخ من المعاناة مع هذه الكارثة، وقد كان الزلزال المدمر الذي ألمَّ بتركيا وسوريا قبل أيام قريباً جداً من المحافظات الشمالية، حيث أغلب السدود الرئيسية، ومن حسن الحظ أنه لم يؤثر فيها. إن أولئك المسؤولين الذين لا يستفيدون من الدروس القريبة، ولا يتأهبون للكوارث قبل حصولها سيتحملون وحدهم نتائجها الوخيمة.
لنا أن نتخيل سيناريو الزلزال قياساً على ما عرفناه من طبيعة أداء المؤسسات الحكومية مع حدث طارئ أبسط بكثير، ما تسببت به موجة الأمطار قبل عشرة أعوام. وقتها كان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وزيراً لحقوق الإنسان، وتم تكليفه برئاسة لجنة لتعويض المتضررين. لم تتمكن اللجنة من عمل الكثير، برغم رصد 600 مليار دينار عراقي، وتخصيص خط ساخن لتلقي الشكاوى، وجدت نفسها بمواجهة منظومة فساد هائلة، تشمل أطرافاً في جهات عديدة، بعضاً من مختاري المناطق، وأعضاء في المجالس البلدية، والدوائر التابعة لأمانة بغداد، ومجلس المحافظة. فعل العجز والروتين فعلهما ليعرقل التنسيق بين الوزارات، وتلكأت المصارف في تأمين المبالغ المخصصة، كما خضع أغلب المتضررين الحقيقين للمساومات، وقسم كبير منهم لم يتلق تعويضاً، بينما نزلت أموال كثيرة في جيوب أناس لا تستحق. هذا السيناريو نفسه تكرر مع أحداث طارئة أخرى، أشهرها نزوح الآلاف من مناطق سكناهم، بعد احتلال تنظيم الدولة الإسلامية لثلث العراق.
لنتذكر أيضاً تحديات أخرى، كالأخطار البيئية الكثيرة، تلك التي لم تحسن حكوماتنا المتعاقبة التعاطي معها بطريقة احترافية مسؤولة، مع أن نصيبنا منها كبير للغاية: التغيرات المناخية، الأوبئة، التلوث، النفايات، التصحر، البناء العمراني غير المدروس، هدر واستنزاف الكثير من الموارد الطبيعية، الألغام التي خلفتها الحروب المتتابعة. قائمة طويلة تحتاج حلولاً فورية، ولا من مجيب.
كانت صور المأساة الإنسانية للشعبين التركي والسوري مؤلمة للغاية، شيء يفوق أي كلام. من المفرح أننا شهدنا دعماً شعبياً وحكومياً للجارتين. وسيكون من الرائع أن تتوفر حملات أخرى أكبر وأكثر، تسهم فيها منظمات المجتمع المدني، ودواوين الأوقاف، والمساجد، والمواكب الحسينية. يمكن لرجال الدين المؤثرين أن يوصلوا للناس رسالة مفادها أن صحن حساء دافئ لأطفال مشردين في العراء البارد يساوي الكثير عند الله، وفي إمكان نخب المثقفين، والناشطين، والفنانين، ونجوم كرة القدم القيام بدور مؤثر أيضاً، أن يعملوا مثلاً على استعادة لحظة الكرم الشعبي الأصيل التي شهدناها أيام بطولة خليجي 25. من شأن ذلك أن يعيد تأهيل صورة المجتمع والدولة، ويظهر للشعوب المجاورة، كما البعيدة المعدن الحقيقي للإنسان العراقي. بالمناسبة، لا يزال هذا أمراً ممكناً، وضرورياً أيضاً. فآثار المعاناة التي خلفها الزلزال ستمتد لأمد غير قليل.
تلك الآثار الأليمة تدق ناقوس الخطر أمامنا، وأمام المسؤولين، وتوفر لنا جميعاً فرصة لتجريب أفق مغاير للتفكير، للمراجعة والتقييم، ولمعرفة الوجهة التي يمضي إليها العراقيون وسط عالم "رجراج" على أصعدة متعددة. فلا شيء يسبر غور النفس الإنسانية، ويضع قدراتنا على المحك مثل ما تفعله المأساة.
في لحظة الهجوم الشرس لأي كارثة طبيعية سيجد العراقيون أنفسهم بمواجهة أخطار مميتة لا قبل لهم بها، حتى الحكومات ذات الخبرة السياسية، والحنكة الراسخة في التعاطي مع الأزمات ستكون عاجزة عن تأمين استجابة سريعة، ومنسقة تؤمن حياة مواطنيها ما لم يهرع العالم لنجدتها. أمامنا مثال تركيا المتصالحة مع الجميع، فقد بدت مؤسساتها ذات الخبرة في التعامل مع الزلازل مرتبكة في اليومين الأوليين. لنتذكر مثال سوريا المعزولة أيضاً، حيث استهلك الحديث عن العقوبات، والمعابر، والجهة المؤهلة لاستلام المساعدات وقتاً طويلاً، كان يمكن فيه إنقاذ العديد من الأرواح.
الزلزال -إن توخينا الدقة- لا يقتل الناس مهما بلغت شدته، لا في تركيا، ولا سوريا، ولا العراق، ولا في أي مكان آخر. ليست له قدرة مباشرة على فعل ذلك. الوفيات تحدث بانهيار المباني، الذي يتسبب به. وهو ما يعيدنا إلى آفة الزلزال الأقوى، والأشد فتكاً: "الفساد". التجربة التركية القريبة كشفت كيف أنه هو المسؤول الأول عن قلب كثير من المباني على رؤوس ساكنيها، بينما في المنطقة نفسها، وعلى بعد أمتار قليلة منها بقيت بنايات أخرى قائمة لأن من بناها كان ملتزماً بالمعايير القانونية. قد يكون بعض منها أصيب بضرر ما، لكنها لم تتسبب بفقدان الأرواح.
تركيا أفضل حالاً منا بمكافحة الفساد، وقوانينها تشترط وجود مواصفات خاصة في الأبنية، مع ذلك انهارت آلاف منها نتيجة مخالفات كارثية ما كانت لتحدث لولا الرشاوى، والمال الحرام. حتى الآن اعتقلت السلطات هناك أكثر من مئتين وخمسين مقاولاً، ومتعهد بناء، أحدهم كان مسؤولاً عن بناء مجمعات سكنية حديثة تتكون مبانيها من اثني عشر طابقاً. ماذا عن المجمعات السكنية التي ارتفعت أبنيتها على عجل، في بغداد وسائر المحافظات، ماذا عن البيوت والمباني التي مضى على بنائها مئة عام في صوبي الكرخ والرصافة، عن أحياء الفقراء (التجاوز) المبنية دون أدنى مراعاة لمعايير السلامة، عن آلاف البيوت التي شيدت بعد تجريف البساتين، فوق تربة هشة؟
ما يحفظ أمن المجتمعات، ويضمن لها السلامة والرفاهية في كل الأوقات، هو ذاته ما يبنى بنجاح أسس الدولة الحديثة، إنه بمنتهى البساطة: "الكفاءة والنزاهة". أي حديث سوى ذلك هو مجرد جهل، أو خداع لن يقنع أحداً. وهنا، لن نأتي بجديد حين نتذكر أن كبار مسؤولي الدولة العراقية من وزراء، ووكلاء، ورؤساء هيئات، وسفراء، وخبراء، ومستشارين، ومدراء عمومين، تمَّ تعيين النسبة الأكبر منهم وفقاً لمنطق المحاصصة، بالولاء لا الكفاءة، وقد أثبتت تجارب السنوات الماضية أن الجهات الساندة لهم ستجعل من الصعب على رئيس الوزراء، وأعضاء البرلمان، والسلطة القضائية محاسبتهم على أدائهم المتعثر، وتخبطهم في إدارة شؤون مصيرية. فهل سيحسن هؤلاء التعامل مع حدث مهول مثل الكارثة الطبيعية بروح قيادية قادرة على اتخاذ القرار السريع والصحيح، أم سيجلسون ليرقبوا المشهد المروع بلا حيلة؟
العمل الإداري، كما السياسة علم لا يجيده إلا المحترفون. وقد صارت حكومات أغلب دول عالمنا اليوم تولي الأهمية الفائقة لما يعرف في اللغة الإنكليزية بـ(Disaster management)، أي فن إدارة الكوارث. باختصار، إن لم نتمكن من منع كارثة طبيعية ما، فنحن قادرون على التخفيف من آثارها إلى حد كبير. يتوقف ذلك على مدى تمكين الخبراء الحقيقين من مواقع المسؤولية، أولئك الذين يمتلكون المؤهلات التخصصية، والعقل الاستراتيجي، الناتج من تراكم خبرات ميدانية طويلة، والأهم سرعة الاستجابة في الأوقات الحرجة، حيث الدقائق القليلة تساوي الكثير.
يفترض، قبل كل شيء، أن تكون لدى الحكومة خطط طوارئ جاهزة، وأن تتم مراجعتها، وتطويرها، واختبارها باستمرار في ضوء ما يستجد من تجارب، وتقنيات، خطط تأخذ في اعتبارها أسوء ما يمكن أن يحدث. ففي الزلزال التركي السوري الأخير، وفي غضون دقيقة واحدة فقط كان هناك آلاف الناس تحت الأنقاض، ومئات الآلاف دون مأوى، وسط برد قارص. كانت قوة الزلزال قد سببت انزياحاً في مواقع خطوط السكة الحديد، ولم تعد كثير من مدارج المطارات صالحة للاستخدام، كما أن أكثر الطرق الاستراتيجية السريعة تضررت أيضاً، حدث ذلك كله دفعة واحدة. ما السبيل الأمثل للوصول بسرعة إلى مكان بعيد لنجدة من هم تحت الأنقاض، وكيف سيتم نقل فرق الإنقاذ، وإيصال المساعدات في ظل أوضاع مثل هذه؟
تلك تحديات صعبة بلا شك، لكنها ليست بلا حل. عن السؤال المتقدم، مثلاً، يمكن الاستعانة بطائرات مروحية عسكرية، مما يعني ضرورة أن تشمل خطط الطوارئ تنسيقاً عالياً مع الجيش، للإفادة من إمكاناته في الأفراد والمعدات. غير أن البنية التحتية النموذجية تبقي خير من يوفر للتدابير الوقائية بيئة عمل أكثر فاعلية، تماماً مثل الحاجة لفرق إنقاذ احترافية، لجهاز دفاع مدني متأهب، أفراده مؤهلون، ومعدات الإنقاذ التي بحوزته تواكب أحدث وأفضل ما أنتج من تقنيات.
ما أكبر مسؤولية فريق إدارة الكوارث! يقع عليه العبء الأكبر في إنقاذ أرواح الناس، وتقليل الآثار السلبية، ولا مجال له أبداً لالتقاط الأنفاس. طبيعة مهمته تستلزم الانطلاق من أرضية ممهدة تتوفر فيها بيانات عن كل شيء، لكي يكون له وعي مسبق بالبدائل المناسبة، فحتى الخطط النموذجية المرسومة على الورق قد يعرقلها وقع المأساة الطبيعية. ترى أين هي البيانات التي تقيم تجربتنا مع وباء كورونا، أو مع الحروب، والنزاعات المسلحة التي حصلت؟ ما مدى نجاحنا، أو اخفاقنا في توثيق ودراسة كل ذلك؟ إن قيمة أية تجربة تأتي من قدرتنا على أن نستخلص منها درساً ينفعنا في قادم الأيام.
المشكلة الكبرى، إن شئنا أن نمضي أبعد في تخيل سيناريو الزلزال، ستظهر في التقرير النهائي لفريق إدارة الكوارث الذي ذكرناه قبل قليل، تقرير لن يتضمن مفاجأة أبداً، يعرف العراقيون فحواه من الآن: "فساد في الإدارة، فساد في العقود، فساد في مواد البناء،...فساد.. فساد...فساد...إلخ". أما أوامر إلقاء القبض على بعض المتسببين به فستصدر بعد أن يكونوا قد عبروا الحدود إلى بلاد آمنة، بلاد جميلة بأبنية رائعة لا تتأثر بالزلازل، سينعمون هناك بتناول الشاي الساخن قبل البدء بدفن الضحايا الأبرياء، أو الأصح قبل انتشال جثثهم من تحت أنقاض الخراب المهول.
ماذا لو حدث زلزال في العراق؟ هذا سؤال لم يدر في ذهني بصراحة. كنت قد سمعته بالمصادفة من حوار بين رجلين مسنين في سوق الحيِّ الذي أسكن فيه، والحياء وحده هو ما يمنعني من إيراد الجواب المضحك لأحدهما. لنأمل فقط بأن تشملنا السماء عندئذ بالرحمة.