طالب عبد العزيز
تعمل النقابات والاتحادات والمنظمات المهنية على تجديد هوية اعضائها سنوياً، باستيفاء مبلغ معين، وهو أمرٌ عملت عليه الجهاتُ تلك، منذ سنوات طويلة، في ممارسة لا يشعر العضو فيها بشيء ذي أهمية. قد يطيب لبعضنا القول بأنَّ البعض من الجهات تلك أفلحت في استحصال قطعة أرض لأعضائها- وهذه قضية لا علاقة لها بالمبلغ المستوفى- بكل تأكيد، لكنَّ سؤالاً ما سيقفز امامنا هو: وما انتفاع العضو بالهوية هذه؟
سيكون حديثنا عن المنظمات الثقافية، التي لا يستوفي أعضاؤها مرتباتٍ مقطوعةً عن أعمالهم، بمعنى أننا لا نجدُ وصفاً وظيفياً في دوائر الدولة لشاعر وقاصٍّ وروائيٍّ ورسام.. فما هم بأطباء ولا مهندسين ولا محامين ولا .. ترى، ما جدوى الانتساب الى النقابة هذه أو الاتحاد ذاك؟ إذا كانت الهوية الممنوحة لصاحبها الاديب والمثقف لا تنفعُ بمسعاها أبعد من دخول النادي(الثقافي والاجتماعي) ولا يؤخذ بأهميتها في أيِّ دائرة من دوائر الدولة، ويُسخر من صاحبها في مركز الشرطة، ومحط تندر رجل الامن، وزعيم المليشيا وهي ليست أكثر من ورقة صُلبة وملونة، يتباهي البعضُ بها أمام زوجاتهم وأبنائهم.
لأغراض انتخابية بحت، ارتكبت الجهاتُ النقابية تلك جناية كبيرة بحق الثقافة حين قبلت بين اعضائها من هبَّ ودبَّ، وأخفق في تحقيق ذاته، فترهلت، وتفتقت، وتسممت، وترذلت حين باتت الغلبةُ للطارئين من اللأدباء واللافنانين واللاصحفيين على حساب المهنيين وذوي الاختصاص والحقيقيين، الذين يجدون في الحقل المعرفي هذا رفعةَ نفوسهم، ومعنى وجودهم الانساني، وهمّهم الكوني، فهم يعتقدون بأنَّ حقل الثقافة وحده المسؤول عن الارتقاء بشأن البلاد والانسان، من خلال الابداع، والابداع لاغير. وليس سرَّاً إذا قلنا بأنَّ نسبة المهنيين في الحقول هذه لا تتجاوز الـ 25% بين عدد الاعضاء في أي نقابة، وإتحاد ومنظمة، وهم في زيادة مستمرة، عقب كل هيئة إدارية منتخبة، ولو أجرت الجهات هذه اختبارات دقيقة لهم لما بقي من أحد.
هذا لا يعني بعدم وجود الطارئين والمتطفلين في حقول أخرى، فالحياة العراقية باتت مشوهة جداً، بعد أن صار من حقِّ أيِّ جهة رسمية وغير رسمية منح ما تشاء من الهويات، وإطلاق ما تشاء من الالقاب، على من تشاء من البشر والبقر والحجر والمدر. قد لا تشكل الهوية عند الاديب الحقيقي شيئاً، فهي مجرد ورقة صامتة في محفظته، لكنها عند الغالبية الطارئة، التي سببت الترهل، وجعلت من الانتماء للمنظمات تلك بؤساً وقرفاً ترى فيها معنيين(وجائهي ومادي) وإذا أخفقت الهوية في تأدية جانبها المادي فلن يعدم صاحبها معناها الوجائهي، ولعمري لهو السوء والقبح بعينه.
الدولة مسؤولة عن التردي هذا، وعلى وزارة الثقافة تقع مسؤولة تفادي التدني والاسفاف لأنَّ مشروع الثقافة يقع في صميم مشروع الدولة الحقيقية، ولا بدَّ من النظر الى الثقافة لا بوصفها تزييناً وترفاً فكريّاً إنما بوصفها تأسيساً حضارياً ومعماراً بنيوياً، لا يقل أهميةً عن خططها في بناء الانسان والمشاريع الكبرى، وفي وسعيها الى التقدم والتطور والنمو في الحقول كلها. لا يمكن الحديث عن بلاد حقيقية يُحترمُ الانسانُ فيها، وتوصف بالتمدن والتحضر والمكانة الرفيعة بين الامم بمعزل عن حضورها الثقافي، إذ ليس المثقف في المجتمعات حلقة مفقودة، وما هو بتابع ذليل، أو معزول في جزيرة مجهولة، ففي العالم المتمدن يتم التعامل معه بوصفه نتاجاً لنجاح سياسة الدولة، وهو أستثناءٌ لكل قاعدة ونظام اجتماعيِّ، لأنه يبذل جهداً مختلفاً، ولأنه الوحيد الذي يخلد أثره في الزمن وليس على الارض.
على المنظمات والنقابات والاتحادات صون نفسها من الطارئين، وتخليص تنظيماتها من أرباع وأخماس وأسداس الادباء والفنانين والصحفيين لتُحترم الثقافةُ في المجتمع، ولإعلاء شأن المثقف، ليحق لها إجبار الدولة على تشريع قانون خاص، يؤمِّن للمثقف المبدع حياته الكريمة، ماديا ومعنوياً، لا بمنحه مرتباً مقطوعاً، كما يتصور البعض، إنما عبر المنح والمكافآت والجوائز وتثميناً لنتاجه حسب.