اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الأديب العجيلي.. وذكريات الزمن الجميل

الأديب العجيلي.. وذكريات الزمن الجميل

نشر في: 21 فبراير, 2023: 10:30 م

عبد الكريم البليخ

ما زالت صورة الأديب الراحل عبد السلام العجيلي عالقة في الذاكرة بالرغم من مرور سنوات على وفاته. سنوات مرت سريعة مع غيابه وانتقاله إلى الرفيق الأعلى في الخامس من نيسان عام 2006 عام الوداع، العام الذي ودّع فيه الأديب والطبيب والإنسان والمجاهد أهله وأصدقاءه ومعارفه، وكل من ارتبط به.

لم يكن العجيلي ذلك الطبيب ابن الرّقة المعروف بمكانته، وبالأفعال التي قام بها لصالح كثير من الناس الذين لا يمكن أن يتجاهلوا غيابه، وكان بالتالي قريب منهم. لا أبدا. العجيلي كان بالنسبة للرّقة وأهلها شعاع من نور. كان العجيلي يشكل أهل مدينة قاطبة لقربه من أبنائها، ولمكانة العشيرة التي ينتمي لها، ويعرفها أهل الرّقة، لأنها تتوسط مدينة غارقة في القدم.

المدينة التي أنجبت الكثير من المثقفين بصنوف الإبداع، سواء أكان ذلك في مجال الكتابة، أو الفنون، والتشكيل والرسم والنحت والصورة، وفي مجال الغناء والدبكة.

الرّقة عرفت كثيراً من أمثال هذه النخبة، وأنجبت نماذج لا يمكن أبنها أن ينساهم، أو يتجاوزهم، أو يقعد بعيداً عن التذكير بأسمائهم .

العجيلي ليس فقط ذاك الطبيب الذي يُعالج الناس، وعيادته تتوسط الرّقة. لا أبداً، وإنما له مكانته ومشاركاته. فقد اختير كنائب لأهلها في البرلمان السوري، كما شارك في جيش الإنقاذ، وشارك أيضاً في الحكومة السورية وفي أكثر من وزارة. كان للعجيلي الطبيب، والأديب والجندي والإنسان مكانته، ولم يبخل يوماً عن تقديم العون لأبناء الرّقة. كان الصوت غير العادي لجيل عاش في كنف مدينة لم تعرفُ سواه، فأحبّوه وعشقوه، فكانت الرّقة تشكل أيقونة حقيقية لهذا الأديب الإنسان قبل كل شيء.

إنَّ هجعي إلى الكتابة يُشكل بالنسبة لي رغبة وألم، وبصورة خاصة، في حال غيابي عنها لمدة لا تتجاوز الأيام العشرة في أعلى مراحلها.

هذا الهاجس له أبعاده، و طالما أشتهي الكتابة، بصورة مستمرة، ما يجعلني أضع نفسي بين هلالين معترضين لا ثالث لهما: الإقبال عليها برغبة حقيقية، والاعتراف بفضلها، أو الجحود لها.. ولم أتعوّد أن أضع نفسي في الباب الثاني، سيّما أنني لم أقصّر يوماً بتقديم أي خدمة يمكنها أن تفيد القارئ، لأنها تطرزّني بالذهب، وتأخذني بعيداً إلى عالم الأدب، وهو عالمي الذي بدأت أبني عليه مستقبلي، واستأنس فيه وحدتي ورغبتي الشديدة في الوقوف أمام جمهوري المثالي العاشق للصورة وللكلمة معاً، الذي طالما يدفعني، وبصورة دائمة، إلى الوقوف على اكتناز أمثال هذا الصور الوجدانية التي أجدُ فيه ضالتي، وأتمرّس فيه تحت سقف دكّاني وحدوده الممنوعة من الصرف، والذي يطويني طيّاً ويجعلني أبوحُ بهذا النّفس النقي التي تصرّ حركة القلب وتدفّقه على أن تكون له أبعاده، وباشتراطاته البسيطة السهلة، وإن كانت معلّقة، على أن أقدمها للقارئ، ورغبتي بأن آمل ما يمكن أن أفعله رغم اصرار البعض من العامّة على وجه التحقيق على أن ما احتللت به عليهم وحدتهم، بل أنّي أراعيها وباستمرار.

وكما يقول الكاتب الكبير، طيّب الله ثراه ـ عبد السلام العجيلي ـ بعد أكثر من سبعة عشر عاماً من الفراق، رحمه الله، وأنا الذي سبق أن التقيت به في عيادته الخاصة، وفي بيته الحجري المكوّن من طابقين، وكنتُ في حينها ما زلتُ شاباً يافعاً أتعلمُ بذور الكتابة، وأفخر أيّما فخار أنّني من الرّقة، مولد المرقدين، مقام الصحابي الجليل عمار بن ياسر، وأويس القرني..

لما لا أليس أنني من روّاد العجيلي، ومحبّي فنّ الرواية والقصص، وهو الذي عَشق صنوف الكتابة والأدب، ناهيك عن الكتابة في مجال التاريخ والفلكلور ومجيد الرّقة والباحث عن تاريخها، وهو الذي من لم يعجز يوماً عن التغلب على كثيرين ممن جايلوه.

فهو من كتّاب سورية المجيدين، وهو من عرف أنّ للرّقة تاريخاً، وهو الذي زاده هوساً بناء مدينته، وعشقه هواءَها، وظلّ ينقل خطواته الواسعة بين مدينة الرّصافة، والرّها، ومدينة تدمر، مع المرحوم الآثاري مصطفى الحسون، فتناولا مدينة الرّقة، وكتب عن مدينة السخنة، ولم يهجرها في تناوله لها.

كان العجيلي النبراس الحقيقي لأبناء الرّقة. كانوا يفرحون لمجرد رؤيته لهم عندما يرونه يسير في الشارع، أو لمجرد مشاهدة عابرة، أو يسمعون به على أنّه ها هو زائراً لمكتبة الخابور „بور سعيد“ وصاحبها العاشق للكتاب ولمخطوطات العجيلي.

الخابور الذي أسّسس مكتبة عمرها تجاوز السابعة والستين عاماً، وكان ينشط في قرارة نفسه عن كل ما هو جديد، ويهتم بكل ما هو مفيد، وكذلك كانت تصدمه الصدفة في الجلوس إلى جانب أسرة العجيلي التي يفرح بحضورها، وتسود التهاني بصورة اسبوعية بجلسات مفتوحة وغنية، فهل نبخس حق أبا بشر المتحدّث الكبير الذي طالما نتشرف به، ويتشرف به أبناء الرّقة ومثقفيها؟. أبا بشر الذي تعلمنا منه الكلمة الطيبة، والأخلاق العالية، والحكمة المؤداة، والقول الفصل الرصين والفصيح، والحب الصادق، وروح الهاوي التي لم تعرف يوماً روح المحترف رغم أحقيته له، والبحث عنه، ولم يلجأ يوماً إلى قيادة سيارته „البويْك“ بدوافع التفاخر، لا أبداً، فكان ينتقل أغلب وقته مفضلاً ذلك راجلاً باحثاً عن أماكن جديدة وأحداث عميقة تجرّه إلى تجارب أكثر اقبالاً من قبل العامّة.

ففي احدى سفراته، رحمه الله، وفي حكاية سبق أن سردها، قال:

كنت إلى جانب خمسة، كانت معنا امرأة من أهل السخنة، وفوّرت السيارة، فأرادوا أن يطفئوا محركها الساخن فما كان على المرأة الريفية الوحيدة التي معهم، ألجأت إلى سائق السيارة، فاستدرجته وقالت له وبدون خجل، خالتكم ستفعل فعلتها، وستنطلق كقنبلة غريبة فأرجو منكم أن تديروا ظهوركم وسيتحقق بلا شك حلمكم الضائع في الصحراء. في الحماد السورية، التي ليس فيها لا طير يطير ولا بشر يسير!. وبالفعل حققت ما عجزت عنه الركاب الأربعة والسائق الذي لم يأخذ حذره وهو في هذه المتاهة.. وبالفعل تمكنت أن تشمّر خالتي عن فخذيها وتبارك لها السماء بمدرار غزير، ويستيقظ النائمون من حلمهم.

وقال العجيلي، رحمه الله: إنّها إرادة الخالق. لم نفعل شيئاً، ولتطربوا.. إنها النساء، إنّها حلم سعادتكم التي لا قبلها ولا بعدها.

اصحوا .. اصحوا.. فلتكن البداية، ومن هنا.

هذه نهفة من نهفات ما سرده أبا بشر رحمه الله، وجعل الجنة مثواه.

ومن بين الصور التي يمكن أسوقها عن الأديب الراحل، والتي ما زالت الذاكرة تحتفظ بها، وهو ما سبق أن قررت السفر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2005، وقبل المغادرة بأيام ذهبت إلى عيادة العجيلي، وكنت في حينها أعرفه معرفة شخصية، وطلبت منه التوسط لي لدى رئيس تحرير صحيفة الاتحاد الإماراتية في حينها علي أبو الريش، وهو صحافي إماراتي معروف، ولا يزال كاتباً ويعمل بصفة محرر في الصحيفة حتى كتابة هذه السطور، ويتناول في زاويته „مرافئ“ قضايا وهموم يومية، وهذا الكلام مضى عليه اليوم أكثر من ثمانية عشر عاماً، وما زال يعالج الكثير من القضايا في تلك الزاوية التي تنشر بصورة يومية حتى وقتنا الحالي.

حاولت أن أشرح للعجيلي العَلم الكبير في حينها، مدى حاجتي لورقة موسومة بخط يده الجميل، وصاية من أديب كبير، باسمه المعروف وتوسطه يعني الكثير بالنسبة لي ولا يمكن بحال أن يفقد بريقه ومكانته، بل يزيده ذلك أكثر توهجاً نضجاً ومكانة، ولا بد من شكره على الرفعة التي يتمتع بها ويعرفها عنه الكثير من عشّاق أدبه وقارئيه. حاولت وأكدت له أن وقوفه إلى جانبي في هذا الظرف سيساعدني في التمكن من العمل في الصحيفة التي كنت أحلم في الوصول إليها والعمل فيها، وكنت أنشر فيها بين فترة وأخرى بعض القصاصات الصحفية إلّا أن قال لي يمكنك تعريفه بنفسك ولا داعي لوساطتي بالمطلق. فأنا لا أحبّذ التوسّط لأحد أياً كان. حاول أنت أن تأخذ دورك وتتقرّب إليه بنفسك وتقنعه بذلك.

خرجت من عيادة أديبنا المرحوم بخفّي حُين. على الرغم من العلاقة التي تربطني بالطبيب العجيلي من خلال نشر بعض المواد الصحفية التي سبق أن قرّبت الكثير من وجهات النظر بيني وبينه، وكان هناك أكثر من حوار صحفي يتناول أدبه وشخصه، ومنها على المستوى الرياضي، ومن تلك الحوارات التي أجريتها معه أذكر حواراً خاصاً بصحيفة „الاتحاد“ الاماراتية، و“الراية“ القطرية، و“المجلة العربية“ السعودية، „الكويت“ الكويتية، فضلاً عن مجلة „الصقر“ الرياضية القطرية، والتي سبق لها أن أحدثت في حينها باباً خاصاً بـ „عكس الاتجاه“، كان أحدثه الزميل الصحافي المخضرم فايز عبد الهادي، ويشرف عليه بصفته المحرر العام في المجلة، وكان من ألمع محرريها المعروفين، إلى جانب كوكبة الصقر المحررين المميزين.. ونشر في ذلك الوقت أي قبل عشرين عاماً، قبل حجبها وتوقفها عن النشر بصورة نهائية، وكان حواراً متميّزاً، للأسف ليس لدي أي نسخة من ذلك الاصدار الذي أعتزّ به وأفتقده اليوم على الرغم من أهميته، والذي نشر فيه حواراً مطولاً مع الأديب العجيلي يتناول الواقع الرياضي في عالمنا العربي، ومدى انعكاس ذلك على الرغبة التي تفيد الناس في ممارسة الرياضة، ودورها في المجتمع، والهوايات الرياضية التي مارسها العجيلي في سنّ الشباب، والمكانة التي حققها اللاعب الجزائري الأصل زين الدين زيدان، الفرنسي الجنسية، كابتن الفريق، الذي كسب قلوب وعشاق الفرنسيين بفوز فرنسا ببطولة كأس العالم لكرة القدم في عام 1998، ناهيك عن أنه ثبّت مكانته في تلك البلاد الأوربية، وبفضل تلك النتائج التي حققها لفرنسا فقد برز نجمه في ميدان التدريب الذي برز وتميز فيه.

إلى رحمة الله أيها العجيلي الكبير، فقد قلت يوماً أنك أخذت من الدنيا الكثير. كتبت وزرت وحضرت العديد من الاجتماعات، وترأست كعضواً في مجلس النواب، وصرت وزيراً، ولأكثر من مرّة، وكنت عاشقاً ومحبّاً للأدب، وكتبت في الكثير من المجلات الأدبية والثقافية، كـ „الدوحة“ القطرية، و“الديار“ البيروتية... وغيرها كثير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram