اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > جبرا إبراهيم جبرا .. اضاءة عتمة صغيرة في صورة مثقف كبير

جبرا إبراهيم جبرا .. اضاءة عتمة صغيرة في صورة مثقف كبير

نشر في: 21 فبراير, 2023: 10:31 م

لطفية الدليمي

القسم الثاني

ثمة جوانب خبيئة من الراحل جبرا ، في فكره وحياته ، جاءت في سياق تفاصيل أوردها في حواراته العديدة ولم أقرأ عنها في كتبه أو في سيرته الذاتية ،

أو ربما لم يتناولها في كتبه بتفصيل دقيق كما تناولها في حواراته ، وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً بمعنى أن يكون جبرا عبّر عن آرائه في حواراته بعبارات قصيرة مقتضبة ومباشرة وفّرت للقارئ المتعجّل المسكون بهاجس القفز على الصفحات وسيلة لمعرفة رأي جبرا بأقلّ جهد فكري ممكن ومن غير تنقيب ذهني متطلّب .

سأتناول في الفقرات التالية بعضاً من الأفكار والآراء التي تناولها جبرا في حواراته ، مشفوعة بكلماته الشخصية ، وقد حاولتُ الاختزال والتكثيف بقدر الاستطاعة :

- روعة الانسان وروعة الحياة

تمتلئ حياة الانسان بالثراء والرؤية حينما يُتاحُ له الانطلاق في كلّ الاتجاهات الممكنة ، الجسدية والروحية معاً ، في بيئة تشجّعُ الانطلاق ولاتكبحه شريطة أن يمتلك المرء أدوات هذا الانطلاق . لن يشهد المنغلق فكرياً إنطلاقاً من أي نوعٍ كان :

« ... إنفتحت عيناي في إكستر ( البريطانية ) على هاتين الروعتين : روعة الطبيعة وروعة أن يكون الانسان جزءاً نابضاً من هذه الطبيعة ، وفي الوقت نفسه بقي الكتاب فعّالاً في حياتي وتفكيري ..... «

- ثمة قوانين لتسيير العشق والهواية

العشق والهواية لايكفيان رغم أهميتهما للمضي بثبات في الحياة . لابدّ من قدر محسوب من العقلنة وإلا استحالت الهواية ضرباً من العبثية المنفلتة . هذا بعضُ مانشهده في واقعنا العربي ويتمايز الغربيون به عنّا :

« ... إكتشفتُ في إكستر أنّ دراسة الأدب ليست مسألة عشق وهواية كأنك تعيشُ بالشيء وتتمتع به فحسب ؛ وإنما هناك قوانين لتسيير هذا العشق ، هناك طرائق يجب أن تعرف كيف تتبعها في دراستك ، وهذه كانت البداية المنضبطة الحقيقية عندي للأدب وكذلك للفن .... «

- الحياة الفكرية الثرية تقتضي نشاطاً متشعب الأوجه

يتفق كلّ المفكرين والباحثين أنّ الحياة تَشَكّلٌ بانورامي تشتبك فيه الحقول المعرفية حتى لو تغلبُ على المرء نزعة معرفية محدّدة بإزاء نزعات أخرى . حُبُّ الحياة والمعرفة يستلزمان رؤية أبعد ماتكون عن واحدية الاتجاه وضيق التخصص :

« ... أرى الحياة بأشكال مختلفة ، متعددة ، وأرى أنني إذا إستجبتُ لها بشكل واحد فأنّ هناك طريقة أخرى للاستجابة أستطيعُ أن أعبّر بها على نحو يتكامل مع طريقتي الأولى ، وهكذا يكون التعبير غير محدّد بكلمة ، أو خط ، أو لون ... «

- الرواية لاتقدّمُ حلولاً لمشاكل بقدر ماتقدّم تفاصيل عن الحراك البشري

يرى جبرا أنّ الروائي المتميز في حرفته يقدّمُ المواقف والشخصيات ، ويجسّدُ الصراعات ويجسّمها كما لو كان مراقباً فحسب من غير تدخّل قسري في دفعها لمواقف محدّدة . تقدّم الرواية الجيدة ديالكتيك الحراك البشري وليس من شأنها تقديمُ وصفات جاهزة لحلّ مشاكل العيش البشري . الرواية ليست حلّالة مشاكل Problem Solver ، ولايجب أن تكون كذلك . هذه ليست وظيفتها :

« ... لستُ بالساذج الذي يتصوّرُ أنّ هناك مشكلة فيضعُ شخصياته فيها ثمّ يخرجُهُم من هذه المشكلة بأن يحسمها بشكل معيّن ، حتى لو كان هذا الحل في النهاية شكلاً منطقياً . هذه سذاجة مابعدها سذاجة ، ولن تجدها إلا عند كُتّاب « الدرجة الرابعة « السهلين ، وهي غالباً ماتوجد في القصة البوليسية والأفلام العادية ... «

- توابلُ جبرا الكتابية : غليون معمّر بالتبغ وفنجان قهوة

لكلّ كاتب أو روائي توابلهُ الكتابية التي تساعدُ في مدّه بالطاقة وحثّ مكامن التفكير وإطلاق شحنة الخيال في عقله . أفاض كثيرون من الكتّاب في الحديث عن توابلهم الكتابية التي صارت مع الزمن لوازم « طقوسية « ضرورية للكتابة :

« ... أحبُّ القهوة حباً خاصاً وأجدها تسعفُ يقظتي الداخلية ، ثمّ أنا ميالٌ إلى تدخين الغليون ، وهو ضروري لي عند الكتابة . يدهشني أحياناً أن أجده بعد أن أكون عمّرته قد انتهى بسرعة لأنني آخذ منه أنفاساً قوية وأنسى الزمن مطلقاً ،،،،، الواقعُ أنّ القهوة والغليون يتكاملان عندي في التنبيه والاثارة .... «

- الرواية تجمعُ بين شتى الرياضات الذهنية

يمكنُ إجمالُ رؤية جبرا هنا في العبارة التي مفادها أنّ الرواية تصلحُ لتناول أي شيء ، وليس ثمة من فكرة عصية على الفن الروائي ، وهذه هي المقاربة التي شرع منها الآباء المؤسسون للفن الروائي :

« ... الرواية تعبير عن عصر بكامله ، عرفنا هذا الشيء ونحنُ صغارٌ عندما قرأنا الرواية الغربية . الرواية تجمعُ بين شتى الرياضات الذهنية : الرياضة الفلسفية ، الرياضة التأملية ، الرياضة الغنائية . هذه الرياضات كلها أشعرُ أنّ بإمكان الانسان أن يستخدمها للتعبير عن التعقيد الهائل في حياتنا ... «

- غاية الحياة كما يراها جبرا

سؤال غاية الحياة ومعناها أهم سؤال وجودي يمكن أن يطرحه الانسان ، وفي الوقت ذاته هو سؤال إشكالي يتقافز مع الزمن ويتخذ أشكالاً مختلفة بحسب الخبرات المستجدة :

« ... أدركتُ شخصياً مع السنين أنّ الغاية كانت في صباي أوضح بكثير ممّا أمست عليه عندما كبرتُ وتعدّدت معارفي وتشعّبت اتصالاتي بالناس وبالتجارب . يخيلُ إليّ الآن أنّ غاية الحياة هي أن تبقى مضيئة ، مشعّة رغم الظلمات العاتية التي تنتابها وتهدّدُ بمحقها ..... «

- غاية الكتابة كما يراها جبرا

لكلّ كاتب غايته من فعل الكتابة ، وفي العادة تتخذ هذه الغاية جانبين : ميتافيزيقي يتمثلُ في كون الكتابة هاجساً مُلِحاً مثل التنفس ، والآخر عملي يتصل بجانب أو آخر من ضرورات العيش ومتطلباته :

« ... غاية الكتابة عندي أن تخدم غاية الحياة . الكتابة ، بالنسبة لي ، نشوة ، وهي أيضاً ألم كلما حاولتُ التغلّب عليه زاد عليّ ؛ لكنني أجد من خلاله نشوة تجعلُ للحياة غزارة ووهجاً وجمالاً يجعلني أطلبُ هذا الألم ولاأخشاه ... «

- الحس المأساوي بالحياة

حياتنا ليست سوى سلسلة مأساوية متصلة تتخللها لحظات فرحٍ قد تطولُ أو تقصر ؛ لكنها تنتهي بعد حين . المدى الزمني للمأساة في حياة البشر أطولُ بالتأكيد من مديات الفرح القصيرة ، ويبدو هذا الأمر حقيقة بنيوية متصلة بطبيعة الحياة البشرية ؛ لكنّ هذه المأساة يمكن أن تصبح دافعاً ملهماً للحياة :

« ... لاأنكرُ أنّ لديّ إحساساً بمعنى الحياة المأساوي الذي يفوق المعاني الأخرى ، والذي أجدُ فيه – مع الفيلسوف الاسباني ( أونامونو ) – إستزادة من الحس بالحياة نفسها ؛ أي أنّ فيه تكثيفاً للوجود الذي لولاه لكانت الحياة تافهة . يبقى الفرح لحظات من الوهج الساطع في فسحات كبيرة من العتمة .... «

- العقل التحليلي والعقل الابداعي : الاشتباكات والتأثير المتبادل

لطالما شكّلت دراسة الانماط العقلية السائدة في النوع البشري موضوعة إشكالية في سايكولوجيا الابداع . يتفق كثيرون من البحّاثة أنّ ثلاثة أنماط عقلية هي السائدة : العقل التحليلي ( العلمي ) ، والعقل الفلسفي ( الاستقصائي ) ، والعقل الابداعي ( التخييلي ) . تتمثل المعضلة البحثية في وجود من يرى أنّ كلّ نمط عقلي يشغلُ جزيرة لوحده ؛ في حين يرى آخرون أنّ كلّ عقل بشري هو خليط بمقادير متفاوتة من هذه العقول الثلاثة رغم أنّ أحدها تكون له سيادة على ماسواه :

« ... هذا التراوح الحار ، العَطِش ، المتطلّع ، المبرّح بين أن يفهم الانسان عقلانياً قضية ما بالنقد والتحليل ، وبين أن يطلق لنفسه سجيتها لكي يحقق ذلك الابداع الذي يجب أن يكون هو موضوع النقد والتحليل ... لعلّني حتى هذا اليوم أجد نفسي مأخوذاً بهذا التراوح .

هل يكون إبداع المرء دائماً تطبيقاً لنظرية مسبقة هي خلاصة دراسة وموقف حضاري معيّن ؛ أم أنّ النظرية هي في حقيقتها دفاعٌ وتعليل وعقلنة لإبداع تفجّر من أعماق النفس ، رافضاً السيطرة العقلانية المسبقة ؟ لربما كان الامران وارديْن ، ومامن شك في أ نهما متّصلان بشكل وثيق ... «

- التعددية الثقافية لدى جبرا ، لماذا ؟

ثمّة أناسٌ في هذا العالم لايقتنعون بالترسيمة القارّة على التخصص المحدود . قد يكون هؤلاء من المتخصّصين في توصيفاتهم المهنية ؛ لكنّ صدورهم تضيق لو مكثوا في نطاق مهنهم أو تخصّصاتهم وقتاً طويلاً ؛ لذا يفرِدُ هؤلاء جزءً من وقت يومهم للبحث والاستكشاف في نطاقات معرفية غير تلك التي تخصّصوا فيها ، وفي الغالب يتحوّل هذا الطقس إلى عادة يومية . أمثالُ هؤلاء يوصفون في الأدبيات الحديثة بأنهم عابرون للتخصصات Generalists ، وتعريفهم الدقيق هو الناس الذين يجدون ولعاً طاغياً وشغفاً لاحدود له في إستكشاف نطاقات معرفية مختلفة ، واكتشاف روابط خفية بينها ، وهم لايطيقون المكوث في ساحة معرفية واحدة ، ولو أجبِروا على هذا الأمر فقد يتطوّر الأمر لديهم إلى حالات إكتئاب عنيدة وتداعٍ في القدرة على العمل والانتاج ؛ بل قد يستحيل الأمر ذهاناً عقلياً خطيراً له تبعاتٌ مأساوية . جبرا هو – بالتأكيد – أحد هؤلاء :

« ... الناحية الواحدة في حياتي تتصل بالأخرى ، والواحدة منها تغذّي الاخرى . حتى الترجمة كثيراً ماتكون لي وسيلة لتجنب الاختناق ، أتنفّس خلالها من جديد ، وكذلك يفعل النقد . كنتُ سأجد نفسي شقياً لو حُرِمتُ من هذا النوع التعددي من النشاط الذي كان منذ البداية محفزاً لي للإقبال على الحياة رغم كل مافيها من بشاعة وألم وفاجعة ..... «

- الرواية وأشكال المعرفة

سنلمس في روايات القرن الحادي والعشرين قبسات متزايدة من المعرفة العلمية والفلسفية والسايكولوجية والتأريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية روائية ، ويتفق هذا الأمر مع القناعة المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور ( الحاضنة المعرفية ) التي تزوّد الأجيال المسحورة بالعالم الرقمي بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة ، وسيكون بوسع الروائي المتمكن (عبر مقاربة مفردات المعرفة بوسائل ناعمة وسلسة ) إعادة التوازن بين المعرفة التحليلية والرقمية المهيمنة ليساعد بعمله الإبداعي على تعزيز كفاءة قرائه الشباب في استخدام الطاقات الخلاقة المتاحة للعقل البشري . تكمنُ المعضلة في حدود هذا التوظيف ونطاقاته وضرورة عدم نسيان أنّ الفن الروائي نتاجٌ يجب أن يبقى متمايزاً بصورة نوعية عن الادبيات العلمية والتقنية والمباحث المعرفية الدقيقة بمسلكياتها المعروفة :

« ... نجدُ أنّ البعض ، الأكثر تأكيداً على تساؤلاته وحيرته ، يطالبُ الروائي بما لايمكنُ لفنّه أن يحققه من أجوبة ، وهي أصلاً أجوبة قد يطلبها هؤلاء من أشكال المعرفة الاخرى كالسوسيولوجيا وعلم النفس والتاريخ والفلسفة والاقتصاد ،،،، إلى آخر ماهنالك من أشكال المعرفة . الرواية في النهاية إنما توحي وتنذِرُ ، وتُثيرُ بدورها التساؤلات ؛ لكنها لاتستطيع – ولم تستطع يوماً – أن تأتي بالأجوبة القطعية ، ولو فعلتْ هذا لبطلت أن تكون فنّاً ..... «

* * * * *

أردتُ من هذه الاستذكارات الشخصية والإضاءات المخبوءة في فكر جبرا أن تكون دافعاً لقراءة أعماله وحواراته وبخاصة سيرته الذاتية ، وأظنُّ أنّ حثّ القرّاء – وبخاصة الأجيال الشابة منهم - على قراءة جبرا ستظلُّ واجباً علينا للتعريف بأفكار وآراء أحد أكابر المثقفين العرب .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram