حيدر المحسن
هي هديّة مدينة يريفان عاصمة أرمينيا لي، وقد زرتها هذا العام في أعياد رأس السنة. كانت المدينة تتأهّب قبل خمسة أيام من هذا الميعاد؛ شجرة الميلاد بارتفاع بناية بثلاثة طوابق في الساحة الكبرى في المدينة، مع موسيقى ومكبّرات صوت تصدح. ثم حلّ اليوم الأخير من السنة، وارتدت الشوارع زينتها؛ ورود ومصابيح وأجراس، وجميع أصناف الخمرة مبذولة بالطبع، وهناك من ابتدرها منذ الصبيحة. لا أقول مع الشاعر الحسين ابن الحجاج:
“من شروط الصبوح في المهرجان / خفةُ الشغل مع خلو المكانِ”
لأني لا أقرب بنت الحان في النهار، كما أن المكان كان مزدحما للغاية، والجميع هنا، عدا السائحين، مشغولون بأعمالهم في ساعات الدوام التي تمتدّ حتى الغروب. قرأ الأقدمون هذا البيت بتقديم العَجُز وتأخيره: “خفةُ الشغل مع خلو المكان / من شروط الصبوح ...إلخ”، كما أن (مهرجان) لفظٌ فارسيّ، يُقال إن الحسن بن عليّ بن أبي طالب جاء يزور أرضا في تلك البلاد، وكانت الأمّة ضاجّة صاخبة في عيد نوروز. سأل الإمام عن الأمر، وأجابوه: “هو مهرجان فرح ورقص يُقام عند رأس السنة في هذه الديار”. فأعجبَ الحسن بذلك وقال: “مَهرِجونا إذن”، ودخل اللفظ إلى قاموسنا منذ تلك الساعة.
“وترى سوسن الكؤوس عليها / كسوةً من شقائق النعمان” “ثم خفق الطبول بين الأغاني / واصطكاك الأوتار في العيدان” “يا خليليّ قد عطشتُ وفي الخم / رة ريّ للحائم العطشان”
الحائم هو الذي يدور حول شيء، وابن الحجاج شاعر زنديق وشيطانه يعادل ألف إبليس ومارد ومتمرد: “فاسقياني محض التي نطق الوح / يُ بتحريمها من القرآن” “والتي ليس للتأوّل فيها / مذهبٌ غير طاعة الشيطان” “لا تخافا عليّ دقة كشحي / لا تُكال الرّجال بالقفزان”
لكني لم أكن أحوم حول شيء، وأمضيتُ الساعات في المقهى وجليسي كتابي في غابٍ قريب من المدينة، وتصلني من بعيد أصوات الأغاني. ثم حلّ المساء وقلتُ أذهب إلى حيث يُقام المهرجان. بين الجموع توقّف نظري عند عجوز شاحبة، كأن ولا قطرة دم في عروقها، وليس عليها رغم البرد الشّديد غير ثياب خفيفة وقديمة. كانت تبتسم بطريقة تستدرّ الشّفقة وتمدّ يديها إلى المارّة، وتجرجر ساقا متورّمة فيها جرح كبير ينزّ صديدا. لم يكترث لها أحد فالجميع لاهون بالطعام والشراب والغناء، وفي كلّ بقعة يلتقيك بابا نويل ولحيته وقفطانه وقلنسوته...
عدتُ إلى الفندق قبل أن يؤذّن لصلاة العشاء في ديارنا، وأمضيتُ ليلة عاديّة جدا، وآويت إلى النوم مبكّرا. الفجرُ في أرمينيا يطول ساعات، ولا تطلع الشمسُ إلّا بعد الثامنة. طويلا مشيتُ في الشوارع، أتبيّن آثار سعادة المحتفلين على الأرض والجدران، الخمرة المسكوبة تبخرت في الهواء وتكثفت وصار طعمها في فمي. بعض الملاهي لا تزال مفتوحة وشباب وشابّات من ملّة ابن الحجاج يصخبون ويدخّنون ويرقصون:
“فاسقياني بين الدّنان إلى أن / ترياني كبعض الدنان” “سكرةٌ بعد سكرةٍ تثبت اسمي / في المفاليج أو مع العميان” “اسقياني فقد رأيت بعيني / في قرار الجحيم أين مكاني”
الشاعر عادل بوصف الثمالة الزائدة عن اللزوم بأنها تنقل المرء من الجنة إلى الجحيم، وهؤلاء الفتيان والفتيات يغنّون في الشرفات وعلى الأرصفة، فهل كانوا من سكان الجحيم أم الجنّة؟ ثم عدتُ مباشرة إلى مستقرّي في المقهى في الغابة، ومع كوب الشاي كان الرجال الكادحون في بلادي يحومون مثل الأشباح حولي، وجلسوا معي إلى مائدتي، المسحوقون منهم أكثر تمثيلا له لأنهم يشبهون لوحة تجريدية لتربته وسمائه، وأكثر العمّال فقرا هم “الكرّاكة”. كتبتُ عنهم هذه المقامة بسهولة وكأن هناك مَنْ كان يُمليها عليّ. أتساءل الآن إن كانت العجوز المتسوّلة المريضة هي من استحثّني على كتابة المقال، أم أنه كان تمرينا جرّبتُ فيه تمثيل الحنين الأشدّ في الغُربة إلى الوطن؟
نُشرت المقامة في ثقافيّة الشرق الأوسط في 14 شباط (2023).