اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > الوثائقي (لن يشيخوا أبداً).. استعادة لأصوات ووجوه فُقدت بمرور الزمن

الوثائقي (لن يشيخوا أبداً).. استعادة لأصوات ووجوه فُقدت بمرور الزمن

نشر في: 22 فبراير, 2023: 10:40 م

رنيم العامري

قبل عدّة سنوات طلب متحف الحرب الإمبراطوري البريطاني، وبدعمٍ من قناة BBC، من مخرج سلسلة أفلام (سيد الخواتم) بيتر جاكسون أن يصنع فيلماً يُعرض بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للحرب العالمية الأولى، على سبيل الاحتفاء، أو على الأقل تأبيناً للذكرى. كان على جاكسون أن يجد طريقة فريدة لاستخدام الأرشيف الهائل من اللقطات التي صُوّرت للجنود أثناء الحرب، لإعادة تقديمها بطريقة تخاطب جمهور القرن الحادي والعشرين.

استخدم جاكسون اللقطات القديمة، نظفها، وقام بإبطائها إلى الحدّ الطبيعي، ونظّم إيقاعها -الإيقاع الذي تُعرف بهِ الأفلام القديمة الصامتة- ولوّنها بحيث تناسب اللوحة المطبوعة في الأذهان عن الجبهة الغربية، ثم أعاد تقديمها مصحوبة بشهادات المحاربين القدامى.

يفتتح جاكسون فيلمه (لن يشيخوا أبداً) الذي عُرض عام 2018، بلقطات بالأسود والأبيض لم يتمّ إدخال أي تعديلات عليها، وهي تصوّر تطوّع الجنود البريطانيين. يظهَر الجنود وهم مستعدّون بل ومتحمّسون للانضمام إلى الجيش، ولم يكن التجنيد الإلزامي يومها قد أُقرّ بعدُ. وقتها اجتاح الحماس العسكري البلاد بأسرها، وتطوّع الشبان البريطانيون ممّن هم تحت سن الخدمة العسكرية الرسمي- 19 عاماً- وبعضهم كانوا في الخامسة عشرة، حتى أن جزمات الجيش نادراً ما كانت تأتي ملائمة لقياس أرجلهم. وهنا نسمع صوت أحد الجنود وهو يقول إنه «اضطر إلى التبول على جزمته لكي يطرّي الجلد»!

في اللقطات الأولى التي ما زالت بالأسود والأبيض، سنرى كيفية التمرّن على الرماية، كما سنرى أيضاً التدريب على القتال وجهاً لوجه باستخدام الحراب (السلاح الأبيض)، ثم الانتقال إلى الحرب: رحلة بالقطار، ثم رحلة بالقوارب، ثم المسير على الأقدام خلال الأرياف، إلى أن تصل القوات إلى ما يسميه أحدهم بالبلدات المهجورة، التي تدمّرت كُلياً، وخلت من السكان تماماً، وتحولت إلى خرائب.

في مربع صغير وسط الشاشة، نرى الرجال يتقدمون إلى ما كانت على الأرجح حتوفهم. ما أن تصل القوات إلى الخنادق على الجبهة الغربية في بلجيكا وشمال فرنسا، حتى تتحوّل اللقطات من الأسود والأبيض إلى الألوان فجأة. سيخطف التحويل أنفاسك، لأنك ستشاهد في لحظة مباغتة لقطات قديمة ومشوهة ومشوشة مع كلام يمكن بالكاد سماعه وفهمه، وفي اللحظة التالية ستنتقل إلى عالم حيّ، بوجوه وأصوات حيّة. هذه الطفرة المباغتة تجعل المشاهد يشعر وكأنه على تواصل مع ما يحدث أمامه بعد أن كان معتاداً على رؤية هذه اللقطات بالأسود والأبيض، الأمر الذي يجعله منفصلاً عن الحدث بسبب الإحساس بالبُعد الذي تُسبغه عليه اللقطات بالأسود والأبيض.

وإذا لم تكن هذه الطفرة كافية، فأن الشهادات الصوتية زادت من التأثير. فقد استخدم جاكسون قُرّاء شفاه ليقوموا بإضافة دبلجة صوتية لكلامٍ ظَلّ محبوساً بين شفاه الجنود لمدة قرن من الزمن. تُمثّل أصوات المحاربين القدامى الناجين من الحرب -السارد الوحيد في الفيلم- وهي مقاطع صوتية مقتطفة من الأرشيف الشفاهي الذي سجّلته الـ BBC في الستينيات والسبعينيات للجنود وهم يتحدثون عن تجربتهم في الحرب. عن ذلك يقول جاكسون: «شعرت أن من الطبيعي أن أدعهم يروون قصصهم». خلال الفيلم كلّه سنستمع إلى شهادات الجنود الذين تظهر أسماؤهم في قائمة الأسماء في نهاية الفيلم من دون أن نرى وجوههم. يقدّم الجنود تفاصيل عميقة، بدءاً من الاستخفاف الذي تلقى به الشبان البريطانيون إعلان الحرب في الرابع من أغسطس 1914، عندما وصفوا الحرب بأنها مجرد «وظيفة» أو حتى «مغامرة» ينتظرونها بفارغ الصبر.

ولكن سرعان ما يتبين للجنود المراهقين أنها لم تكن مغامرة كما ظنوا على الإطلاق. كل تلك البهجة التي شاهدناها في اللقطات الأولى، ستنمحي فجأة مع وصولهم إلى الخنادق، في حرب سُمّيت -ولا عجب- بحرب الخنادق، بعدما تبيّن أن الخنادق هي البطل الذي لوى ذراع العسكر من الجبهتين في النهاية.

لقد حفر الألمان الخنادق لتفادي فقدان المزيد من الأراضي لصالح الحلفاء، بينما حفرها الحلفاء لتفادي فقدان المزيد من الجنود. هذه الاستراتيجية القديمة التي اتّبعها القادة من كلا الطرفين كان يُفترض بها أن تكون مؤقتة. ولكنها كانت سبباً إضافياً، إن لم يكن رئيسياً، للأعداد الهائلة من الضحايا، بسبب الظروف المأساوية للحياة اليومية في الخنادق، بين الجوع وانتشار الأمراض والجرذان وانهيار الجدران والوحل الذي أغرق الجنود. لدرجة انتشار ظاهرة مرضية صارت تُدعى بـ «قدم الخندق» أو «قدم الغمر»، التي تحدث عندما تبقى القدم في الجوارب والأحذية الرطبة والباردة عدّة أيام، وهي في حالة لم تُعالج ستؤدي إلى الإصابة بالغنغرينا، ثم البتر.

بين نيران المدفعية الألمانية التي لا تفتر، وبين مشاق الحياة اليومية في الخنادق، نرى الجنود وهم يمرّون بتغيّرات عاطفية جذرية. في الخنادق، كان الجنود بين حجري رحى، فمن جهة، كانت هناك أهوال الحرب من قصف المدفعية، ونيران القناصة، وهجمات الغاز؛ ومن جهة أخرى هناك البرد والوحل وقلة النظافة، والقمل، والجرذان السمينة من أكل الجثث، والعمل الجسدي الشاق، والحُفر الطينية التي تشكّلت من الجثث المتعفنة للجنود والأحصنة، وبتر الأطراف، والإسهال.

هناك لقطات أيضاً تُظهر الجنود أثناء الراحة أو العمل، بضمنها لقطات للمراحيض المرتجلة التي تظهر فيها مؤخرات الجنود العارية وهم يقضون حاجتهم ضاحكين. ونشاهدهم يحلقون ذقونهم، ويلّمعون أزرار بدلاتهم، ويصطادون القمل من أجسادهم ويحرقونه بأعقاب سجائر الجيش، ويشربون الشاي، ويشربون الماء من عبوات البنزين الفارغة.

تشتدّ الدراما في مشاهد هجوم الجنود البريطانيين على مواقع المدفعية الألمانية وعبورهم الأرض الحرام. كانت المدفعية الألمانية بانتظارهم، وفجأة صبّت نيران غضبها عليهم ومزقتهم. يتحدث المحاربون القدامى عن سقوط الجنود البريطانيين تحت نيران المدفعية الألمانية والبريطانية على حد سواء عندما أخطأ المدفعيّون البريطانيون في حساباتهم، أو لم تكن المدافع ذات مدى كافٍ. في هذه اللحظة ظهرت الدبابات لأول مرة فسحقت الجثث وتقدّمت إلى الخطوط الألمانية. ثم «وقعت مجزرة» بوصف أحد المحاربين.

أما المعارك الضارية التي لم يكن من الممكن تصويرها بسبب صعوبة نقل معدّات التصوير، فقد استعاض عنها جاكسون برسومات توثيقية من مجلات من زمن الحرب، يظهر فيها الجنود كمحاربين بُسلاء برؤوس وحراب مرفوعة، على النقيض من الشهادات التي نسمعها طوال الفيلم.

لكن الذروة العاطفية كانت في إعلان نهاية الحرب. وهي لحظة يصفها أحد المحاربين بـ «أكثر اللحظات الباهتة في حياتي». هنالك لقطات تُظهر الجنود وهم يسمعون بصمتٍ خبر الهدنة. لم تكن هناك احتفالات ولا موسيقى، ولم يشربوا نخب انتهاء الحرب ولا حتى كوب شاي. يعود الجنود وهم محاطون بصمتٍ فاضح. ضربت البلاد بطالة جماعية، ولم يقبل أحد بتشغيل الجنود، حتى أن بعض المحال علّقت يافطات كُتب عليها: «لا نريد الجنود السابقين في العمل». بدا أن المدنيين أشاحوا بنظرهم عن الجنود العائدين، ربما لأنهم أرادوا نسيان ما حصل، أو ربما لأنهم لم يستوعبوا ما مرّ به الجنود في الحرب. يقول أحد الجنود كنا أشبه بـ «عِرقٍ منفصل».

وهنا، تستعيد اللقطات لونيها الأسود والأبيض وتعود إلى داخل المربع الصغير.

هذا ليس فيلماً وثائقياً اعتيادياً، لأنه لا يقدّم خلفية تاريخية عن الحرب وأسباب اندلاعهاـ ولا يظهر فيه أكاديميون وباحثون. وعلى حدّ تعبير جاكسون: «لقد صنعنا فيلماً لنُظهر التجربة البشرية للحرب العالمية الأولى». إنه استعادة لأصوات ووجوه فُقدت بمرور الزمن، حتى أصبحت مجهولة. يقول أحد المحاربين: «كنا نقوم بعملنا فقط. ومهما يكن فليكن». ويقول آخر: «لقد أعطيتُ سنوات شبابي من أجل هذا العمل». لقد رأتهم الحكومات كبيادق، «لقد كانت الحرب مثل لعبة كبيرة»، يقول صوت آخر. هذا الفيلم الذي أخذ اسمه من قصيدة (For the Fallen) للشاعر الإنجليزي لورِنس بنيون، لا يتعلق بعبثية الحروب أو تبريراتها، بل بهويات آلاف الضحايا، التي ضاعت وفُقدت خلال الحرب. إنها قصة الجندي المجهول في كل مكان وزمان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مشهد بصري لشاعر يتلهّى ويستأنس بالكلمات والصُّور الشعرية

الأثر الإبداعي للكتب السينمائية المترجمة ملف "السينمائي" الجديد

ياسر كريم: المتلقي العراقي متعطش لأفلام أو دراما غير تقليدية

مقالات ذات صلة

ياسر كريم: المتلقي العراقي متعطش لأفلام أو دراما غير تقليدية
سينما

ياسر كريم: المتلقي العراقي متعطش لأفلام أو دراما غير تقليدية

المدىياسر كريم مخرج شاب يعيش ويعمل حاليا في بغداد، حصل على بكالوريوس علوم الكيمياء من الجامعة المستنصرية. ثم استهوته السينما وحصل علي شهادة الماجستير في الاخراج السينمائي من Kino-eyes, The European movie master من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram