رواء الجصاني

يعرف الباحثون والمتابعون المعنيون الكثير عن مؤلفات عديدة تعنى باختيارات ومختارات من ديوان وقصائد الشعر العربي، بعصوره المختلفة، عامة او متخصصة،

وتحت عناوين شتى، بعضها سريع عجول، واخر موسع بهذا القدر او ذلك، وبحسب المؤلفين والناشرين، واذواقهم وقدراتهم، وما يبتغون من اغراض، ويحبون.. وقد اشتهر عدد من تلكم المؤلفات، بحسب اسماء منجزيها، وعناوين اختياراتهم، ومختاراتهم، فيما بقي قسم آخر- ولربما كان أشمل، وأرقّ وأوثق - قليل التداول ولحدود بعيدة..

وفي ذلك الشأن، وتلك الدرب، حرص الشاعر العراقي – العربي الكبير، محمد مهدي الجواهري (1899-1997) وهو في منتصف تسعيناته، أن يجهد بكل مثابرة لأغناء المكتبة العربية بمنجز ثقافي وشعري نادر بفخامة محتواه، وذلكم هو موسوعة "الجمهرة" بعشرة اجزاء، يضم مختارات لمئات الشعراء العرب، ومن مختلف العصور، لتتولى اصدارها وزارة الثقافة السورية. وقد انشغل بها الشيخ الجليل عامي 1984-1985 في دمشق الشام، وليشرف على تنقيحها وفهرستها وترتيبها لاحقاً د. عدنان درويش (1) ليصدر الجزء الأول منها عام 1986 مكرسا للعصر الجاهلي بنحو تسعمئة صفحة من القطع الكبير... ثم تبع ذلك صدور الجزء الثاني (العصر الاسلامي والأموي) عام 1990 بأربعمئة صفحة من القطع ذاته... أما الأجزاء الأخرى فهي اما انقطع استكمال طبعها، أو انها صدرت فعلاً، ولم يتسنَ لنا الاطلاع عليها...

وفي جمهرته، لم يكتف الجواهري باختيارات "العيون الشعرية" وحسب، بل وأوجز سطوراً عن حياة أصحابها الذين ضمتهم الموسوعة، وقد كان للفحول من الشعراء حصتهم الأميز في هذا المجال. وقد سبق كل ذلك تقديمه لبحث (متابعة/ تقييم) مهم انتصر فيه للشعر الجاهلي، وفي حوالي 40 صفحة وصفحة، اثارت اهتماما بالغا عند المختصين والمتلقين على حد سواء. وقد نشرت كاملة في اصدارات دار (المدى) بدمشق في النصف الثاني من الثمانينات الماضية. كما شمل المنجز أيضاً مقدمات جواهرية لكل واحد من الأجزاء الأخرى..

وفي حديثه عن "قصة الجمهرة" كتب الجواهري عن اختياراته للشعر والشعراء قائلا اتها " انسجمت مع ما جبلتُ عليه مزاجاً، وفكرة واتجاهاً، من اعجابي أكثر من كل شيء آخر، بالقصيدة، أو بالقطعة التي تجمع – إلى جانب قيمتها الشعرية واشاعتها جواً من صفاء التعبير ورقة النغم – قيماً اجتماعية، أو خلقية أو ثورية أو سياسية أو سخرية... ثم القصائد والقطع التي تتصل اتصالاً وثيقاً وصادقاً بالحيوات الشخصية الخاصة بشعراء عرفوا – أولاً وقبل كل شيء – بما يتميزون به عن الشعراء الآخرين باستقلال شخصياتهم وشخوصها، وتفردها في اختيار نمط من الأنماط العديدة للحياة، يعكفون عليه، وينذرون له أنفسهم ومصائرهم...". (2)

... وبحسب شهود عيان من أهل البيت - ونحن في صميمهم - فان العام ونيّفا الذي استغرقه الجواهري لانجاز موسوعته كان "صفاً" أو "دورة دراسية" بكل ما يعنيه ذلك من معنى... ومن بينه انغمار عميق للشاعر الكبير في عشرات مصادره مثل "الأغاني" و"العقد الفريد" و"خزانة الأدب" و"الفضليات" و"حماسة ابي تمام" ومختارات "البحتري" و"البارودي" و"ادونيس" و"هادي العلوي" وغيرها، فضلاً عن دواوين العشرات من الشعراء المعنيين، ثم لتتم الاستذكارات، فالاقتباسات فالتصحيح والمراجعة، ثم التنقيح والترتيب...

اخيرا تبقى ان نقول ان ذلك الجهد الفائق تسبب وفور اتمام "الموسوعة" في أن يتعرض نظر الجواهري إلى صعوبات جدية آلـت لأن تُجرى عملية دقيقة لعينيه، في احدى كبريات المشافي المتخصصة بباريس، على حساب الدولة السورية، نجحت في ترميم بعض الأضرار، ولكن النتائج النهائية كانت أن يفقد قدرتــه على الكتابة الواضحة، فضلا عن القراءة التي كان ولوعاً بها، ودؤوباً، بل و"مدمنا" عليها منذ صباه وفتوته...

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. ومما هو جدير بالذكر ان د. عدنان درويش اتمم طبعة فريدة من ديوان الجواهري، نشرتها وزارة الثقافة السورية بخمسة اجزاء، مرتبة حسب احرف الابجدية العربية خلال الفترة 1979-1984..

2.وثق الجواهري في خلاصاته عن الجمهرة شكـرهٌ للباحث " السيد الهادي العلوي" على ما قدمه من جهد في اتمام العمل، و"للشاب اللبيب النابه، جمال محمد على الجواهري" لما بذله من مساع فنية وطباعية بذلك الشأن..