اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > سهيل سامي نادر.. يرصد الموت والخراب في حي 14 تموز

سهيل سامي نادر.. يرصد الموت والخراب في حي 14 تموز

نشر في: 26 فبراير, 2023: 11:10 م

شاكر الانباري

نحن أمام شخصيات تتأمل واقعها ثم تطلق أحكامها عليه. نرافقها منذ المراهقة وحتى نضوجها الفكري والجسدي، لتسقط، لاحقا، في شرنقة الحروب المتوالية.

تاريخ صار معروفا للجميع دون أدنى شك، لكن التفاصيل الدقيقة مجهولة تترسب في دواخل البشر. والتفاصيل هي ما يهم الكاتب. وجديده ينبع من بناء تلك التفاصيل. وبراعته أيضا.

وسهيل سامي نادر يدرك تلك المعلومة جيدا. وتحولات أحكام شخصياته تتواشج مع فترات سياسية مظلمة، هيمن فيها حزب واحد على كل حيثيات الواقع، وتفرّد بعدها شخص واحد في الموت والحياة، ثم حرب لم تترك زاوية في النفوس إلا ونفذت إليها. تغلغلت كأي خلايا سرطانية ذكية في جسد الوطن، وقادت ذلك الحي بشبابه، وبيوته، وبغداده، وعراقه، إلى التحلل، والانهيار، والموت السريري.

نتجول منذ البداية في حي اسمه 14 تموز، وهذا هو المكان. والسنة هي نهاية السبعينيات من القرن الماضي. نجد أنفسنا مع مراهقين يقرأون رموز هذه الأحجية التي يعومون في لجتها بوعيهم الضيق، نوعا ما، وأفكارهم التلقائية التي تسعى للفهم والاستنتاج والمحاكمة، مستخدمة كل أدواتها المعرفية، واللغوية، والفلسفية، لكن يرافق ذلك ضمور هائل في الفعل. ثرثرة مراهقين يعتقدون أن الأرض تدور حولهم فقط. فالفعل، والحركة، والاندفاع لتغيير الواقع، تقود إلى الهلاك في بلد الزنازين، والتقارير الحزبية، والنمائم، وفرق الاعدام.

يقع الحي في جانب الرصافة من بغداد، واحتل موقعا استراتيجيا بين بغداد التاريخية وبغداد الجمهورية. يحدّ الحي من الغرب شارع فلسطين التجاري الصاخب، ومن الشرق قناة الجيش. سكانه من الطبقة المتوسطة: موظفون، وضباط، ومدرسون. من ذلك الحي خرجت عصابة الشباب الساخرة: منير، وفالح، وصالح، وأصدقاؤهم الدائرون حولهم ابراهيم ابن الضابط، ومحسن السمين، وحسن السلبوح، ومحمود الضعيف، وسعد المالح. شباب يحيلون كل حدث جاد إلى مسخرة. وينظرون إلى الأفكار المتماسكة باستهجان وتتفيه واع، كون الأفكار لا تغيّر واقعهم المزر. وكان ذلك قبل الحرب، ويرويها منير الأعرج في القسم الأول من الرواية الذي أطلق عليه اسم "المؤانسات". هؤلاء يضعون كل شيء على مشرحة النقاش. المراهقة: وهي أولى المراحل التي تواجه الشاب البغدادي، وعلى لسان منير المعوق نتابع رؤيته، وهي رؤية أقرانه بشكل عام: الكبت الجنسي نتيجة ثقل التقاليد، والخيالات النسائية المستحضرة عادة ما تكون بديلة عن الاتصال الجسدي، واهتمامات المراهقين من أبناء الطبقة الوسطى، المرفهين نسبيا مقارنة بجموع الشعب الفقير والجاهل كقراءة الكتب، ومراسلة المجلات، والموسيقى، والفن التشكيلي، والحلم بالسفر نحو فضاءات أكثر حرية. هم بقدر ما يعيشون على هامش الحضارة. وكانت العادة السرية وملاحقة الفتيات هو المشترك لدى جيل العبث. العادة السرية نتيجة الركود اليومي، والرقابة الحكومية والأسرية على الأخلاق، وندرة النشاطات التي يمكن للمراهق تفريغ طاقته فيها، والجهل المطبق بالثقافة الجنسية. اكتشاف الجسد كانت أولى الدروس لتلك الشلة العابثة. وبغياب الجسد الآخر، يقول منير، لا يبقى أمام الفرد سوى العبث بجسده عبر استحضار سيناريوات لنساء قريبات، أو مألوفات في هذا الحي، أو معلمات وجارات.

تمتد تصفية الحساب مع الماضي على لسان منير صاحب العاهة في رجله اليمين حتى نهاية الأحداث، حيث أول ما يبتدئ بتحليل الشخصية العراقية التي وصفها بركام هائل: ناتج عن تفجير أبنية، طابوق مفكك، أرباع وأنصاف وأخماس، ثلوم، كسور، حصى ناعم، فتافيت. شخصية "سايكوباثية" بالمصطلح النفسي، بنيت على امتداد عقود من الانقلابات، والاحتلالات، والمصادمات الطائفية، والاخفاقات في الوصول إلى طريق واضح لما يراد له أن يكون وطنا للجميع. ضمن تلك الأجواء الكابوسية تصبح مراقبة زيارات القائد للبيوت العراقية واحدة من متع الشلة الساخرة. يضعون التلفزيون في الغرفة العليا المعزولة، يتجمعون على مائدة البيرة، يقفلون الأبواب والشبابيك، ثم يضعون ما تنقله الكاميرا على طاولة النقد والسخرية والضحك. يرونه يدخل المطابخ البغدادية مفتشا في القدور عن طبخة اليوم، محدقا في عيون ربات البيوت التي تلهج بالثناء والشكر، مداعبا الأطفال المدهوشين. يرونه يطبطب بيده على أكتاف مضيفيه ببدلته العسكرية ونياشينه، نياشين الرعب. وفي فضاء بعيد عن حقيقة المعارك المهلكة، يتابع الشباب الساخر حركاته البهلوانية كاتما خوفا داخليا من الأيام القادمة. فوقود الحرب لا تنتهي، وهم يقفون على الطريق السائر نحو الموت.

اكتشفوا ذات يوم أنهم لم يعودوا يجهرون بأفكارهم الحقيقية عن حياتهم البائسة حتى لأنفسهم. فالأخ الأكبر يراقب كل نأمة في الشارع، ويسجل كل رأي يقال دون روية. وأذرع الأجهزة الأمنية جاهزة للبطش. وعي مبكر يستولي على الجميع حول خطورة المرحلة. ذلك هو الواقع، أما روايات الحرب وما يبثه التلفزيون من انتصارات، وما تدبجه الصحافة من أكاذيب، وما يلعلع به الشعراء الشعبيون، فلا يعدو أن يكون موجة ساخنة، وحارقة، مثل صيف بغداد الذي يذيب تكوينات جواد سليم المعلقة على جدارية نصب الحرية. ونحن إزاء تأملات فلسفية وفنية وفكرية في كل ذلك الجحيم.

الشخصية العراقية المشوهة، علاقات الحب المشوهة، المساءات المشوهة بدخان السيارات العسكرية. الأفكار المشوهة التي تدّعي الاستقامة، لشعب وجد نفسه في مصيدة الحزب الواحد، والحرب، والقائد ذي النياشين. وليس هناك من ضوء في نهاية النفق. والتحول الأكبر الذي حدث لتلك الشلة "البائسة" حين قامت الحرب مع ايران. تلك الحرب ستصبح الفضاء العام للرواية في قسمها الثاني المعنون ب"المراثي". تلك هي المحرقة الباذخة في وعي الشخصيات كلها، حيث ينزل حي 14 تموز من سماء الأفكار والحوارات الفلسفية والتهويمات الجنسية والتحليلات التاريخية، إلى الواقع الخشن. الموت الذي يلتهم كتب الأدب، والأغاني العاطفية، والعلاقات البشرية، وعادية الأيام في جريانها المعروف.

تحولت الحرب إلى فضاء اجباري للشخصيات، فقد لوّنت مناحي الحياة كلها بألوانها: الصحف، الكتب، الشوارع، البيوت، لافتات النعي، الحزبية القامعة، نشاطات قائد الحرب، الفن. وينتج عن كل ذلك ضغط هائل على وعي الشخصيات، وتعاملهم مع تلك المفردات. وهنا يقودنا منير، مدوّن الأحداث، إلى سلسلة جحيمه الذي يبكيه ويرثيه في الوقت ذاته. فقد اقتيد رغم عوقه إلى معسكرات الجيش الشعبي، لينقلنا إلى بعد أعمق في عذابات شلة 14 تموز. الوحدة، فراغ الصحراء القريبة من الموصل، الاذلال الممارس على المجنّدين، الرعب من أي كلمة أو تعليق على لغة المطحنة البشرية الدائرة في جبهات القتال. ثم الاستدعاء إلى الاستخبارات العسكرية في مقرها الكائن في الكاظمية. تابعناه في رحلة التيه تلك وكأنه شخصية بملامح مشوهة وتداعيات شاذة خارجة من إحدى روايات كافكا. هو لا يعرف سبب استدعائه، ولا يعرف التهمة، ولا يستطيع مجابهة محققيه. اكتشفنا أن الأمر يتعلق بانتحار صالح في جبهات القتال، الانتحار الذي فسر على أنه تثبيط لمعنويات المقاتلين وكانت تلك تهمة لا تغتفر في نظر القائد. أما جبهات الحرب، وكان فالح وصالح قد التحقا بها، فكانت ملونة بقذائف تشعل الأجساد، وفقدان للعقل أثناء الهجوم، وأوامر صارمة، ورائحة جثث متروكة في العراء، وأحلام محشورة بين قذيفة الأعداء وأجساد الجنود.

من تلك الفاجعة التي عمت المجتمع ولدت أيضا رواية الحرب، وشعر الحرب، وإعلام الحرب. وسرعان ما يجد الفرد نفسه محاصرا بضجيج قادم من الجهات كلها: الهواء والأرض، والسماء، وهواجس الرعب الداخلية. والسوريالية في هذه الأحداث هي الطاغية، وهي انعكاس لسوريالية واقع بحد ذاته. سوريالية اللغة، والسخرية، والوقائع البعيدة عن المنطق والعقل لجيل ضائع، سحبته الحروب المتعاقبة نحو مصير مأساوي. لنجد في نهاية هذه الرواية تحولات أبطالها من سكنة الحي البغدادي. هنا تتجلى سوريالية التحولات والمصائر في أقصى ظهورها وحضورها. فهم بعد الاحتلال وصعود التنظيمات الدينية والطائفية، بين ميت ومهاجر ومروّج للطائفية أو مستفيد أو منتسب. جرى ذلك على ركام من الانتحارات، والعوق الذهني والجسدي، والسكن في المقابر، والنكوص عن أحلام الشباب إلى جنة الدين والخرافات. ثم لتعود الحلقة الجهنمية، حلقة الزمن، لتنغلق مرة أخرى، ويصبح الهروب من نارها هو الحل الوحيد. وهذا ما فعله كاتب هذه الرواية في نهاية سنة 2006.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram