اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > سالم الدباغ.. عمارة اللوحة في لحظة الوجد الصوفي المتوهج

سالم الدباغ.. عمارة اللوحة في لحظة الوجد الصوفي المتوهج

نشر في: 26 فبراير, 2023: 11:15 م

د. جمال العتّابي

إذا كان الجدل ما يزال قائماً حول الجماعات الفنية في العراق، فان هذا الجدل ليس إلا دليلاً وبرهاناً يشير الى وضع صحي في مسار الحركة التشكيلية العراقية،

أسهم فيه أغلب الفنانين العراقيين الذين تبنوا فكرة التجديد، ومنهم سالم الدباغ، الذي كان عضواً نشيطاً مع جماعة (المجددين 1965)، الى جانب الرسامين علي طالب، وصالح الجميعي، وفائق حسين، وهذه الجماعة كانت تدعو إلى الاهتمام بالتقنية في العمل الفني، والتأكيد على ضرورة تجديدها، وما من جماعة فنية كانت إلّا وقد بدأت بأفكار رائدة وجديدة، و كان جيل سالم الدباغ كله يبحث عن بداياته، أي تكوين ذاته واختراع نظامه الابداعي الخاص.

بداية الدباغ كفنان كرافيك ارتبط بتأسيس فرعي هذا اللون من التشكيل في معهد الفنون الجميلة، واكاديمية الفنون الجميلة، وباندفاع بعض الخريجين من الفنانين الشباب لدراسته في معاهد الخارج، ومنح هذا المصدر أبعاداً متباينة في الاتجاهات بفعل التأثيرات الأوربية في فن الكرافيك العراقي، كتعبير عن فهم الفن، بوصفه قبل كل شيء، نتاج بيئة اجتماعية وذاتاً تمتلك تفردها، وهدفاً إنسانياً شاملاً.

درّس سالم الدباغ فن الكرافيك مع استاذه (ارتوموفسكي) في أكاديمية الفنون الجميلة، وكانت المرّة الاولى التي تدخل فيها هذه المادة في مقررات الدراسة الفنية، قبل ذلك كان الدباغ قد تدرب سنتين على فنون الطباعة والحفر، وأبدع فناً خاصاً به، يصفه رافع الناصري، انه يتميز بسطوحه المرهفة عند استخدامه طريقة الحفر الجاف، فخطوطه الحساسة جداً تميّزه عن كثير من فناني الحفر العراقيين، وهي الخطوط التي تشكل منها الدرجات اللونية والسطوح المتنوعة، ما بين التناغم والتضاد الشديد.

ليس لدي أدنى شك في ما ذكرته الكاتبة مي مظفر، وهي القريبة وزوجها رافع الناصري، من سالم الدباغ، انه لم يكن له علاقة بالفن في طفولته المبكرة، لكنه اكتشف بالصدفة بعض الصور لأعمال الفنان فان كوخ، انبهر بألوانها وأسلوبها، وخصائصها الجمالية، حاول أن يقلّدها، لأكثر من مرة كان يجرب، فاتّجه نحو هذا العالم، وتفرّد بين فناني جيله المتميزين بعلاقة خاصة مع العالم الخارجي،(أهم مميزات هذه العلاقة، انها تأسست من بنية صوفية اندماجية مع الموضوع، بوصفه مظهراً خارجياً لبنية داخلية أكثر تعقيداً ونسيجية؛ الرأي لفاروق يوسف نقله شاكر حسن ال سعيد في كتابه: فصول من تاريخ الحركة التشكيلية).

هذا النشاط التجريبي حتّم على سالم الدباغ أن يخوض مع نفسه صراعاً داخلياً، متفحصاً أعماله، كان يدرك قبل كل شيء هذا القلق الاسلوبي، وفي الوقت نفسه الرغبة التعبيرية المتخفية في أعماله وطرحه التجريدي الجديد، هذه الفكرة بالأساس، أو لنقل الوعي فيها، جعلته يتوصل في الأخير الى اسلوبه الواضح في أغلب أعماله، لتجسيد أفكاره من جهة، وفي تجسيد التعبير عن عاطفته ازاء موضوعاته المختارة.

قد تمنحنا طاقة الفن التي يمتلكها سالم الدباغ قوة إيحاء ذاتية تنتشر في دواخلنا، وتتنفس وتعيش ضمن عالم إشراقي، وفي حدود جمالية خالصة الصفاء، غير ان هذا التشييد الروحي قد يبدو انه خارج الزمن، وبعيداً عن الفة النظر، أشكال مختزلة، مربع بلون واحد بلون الارض او التراب، أولونين متجانسين، خطوط متقطعة، تشخيصات اشارية برسم الأسهم. هناك فضاء ساكن، غامض وهادئ، يمنح القيم اللونية هذا التضاد المشبوب بالعاطفة، على صعيد تنفيذ العمل، او على صعيد معالجة فكرة المسافة الشاسعة بينهما.

المربع ذاته يكرره الدباغ، باستثناء مثلث واحد يعود بنا الى فكر قديم يفصح عن تضاد بين الشكل المحدد بصرامة والفضاء الحر، بين الحدود المباشرة، والعالم المكون من اللا أشكال. في متدارك هذا الايقاع، لا تكتفي لوحات سالم بانارتها الداخلية فحسب، ولاتمنح نفسها للمتلقي بسهولة، بل تحتاج ان نمارس معها تجاسداً فنياً يتوازن مع حالة استرجاع الزمني الذي عاناه الفنان في لحظة الصراع، وهو يشد الاوتار ويرخيها، لتشييد عمارة اللوحة في حالة من الوجد الصوفي المتوهج، تتنفس هواء العالم فتحيله الى ذرات تراب، اوخيوط تبوح عن شجن مطفئ.

في الأفق البعيد من اعمال الدباغ تبدو هناك كتلة من لون كأنها غيمة منتحرة، أو نجمة منطفئة، نجوم كانت تضيئ، في الصحراء لا جمل ولا رجال، انما خيام، كانت مجالس لاحاديث وذكريات سجال، ثمة اصوات تنساب خافتة عبر كوى صغيرة، هي أصوات لونية لا تعترف الا بحركتها الذاتية، لأنها باب تفتحه انتباهة الروح على ما لايمكن نواله، ظلال صحارٍ تسكن خارج حدود الزمن، وهي دورة افلاك صغيرة، ترتعش بألوان من نثار التراب، وهي في النهاية منافسة مع الزمن لاقتناص لحظاته الصراعية حين يهرب المكان من مكانه، ويرسم الدباغ من زفرة الارض حلمه الخاص.

يقدم الفنان في اعماله الفنية خبرته الفنية- الجمالية، على أن هذه الخبرة تخفي قضايا تستحق لفت الانتباه كالمزاوجة الدائمة بين الرسم وبين الكرافيك لدرجة التوحد، كذلك في استخدامه فن الكولاج، ليكشف لنا عن سر عالمه الداخلي، عن اللذّة المستحيلة، والحلم والرغبات المنفذة بالرسم، باختزال وكثافة في الأشكال والألوان والأفكار، الى وحدات مصغرة ومعالجة بعناية فائقة. أعماله الفنية تشي دائماً بتناغمها الموسيقي الهادئ، مع الرذاذ اللوني واشارات التقاطع الداخلي التي تنتشر على السطوح مثل حبات البلور، فتحيله الى سحاب مشّع، هي في جوهرها تدفق مستطاب لكنه تام في ذاته، لأن البعد الخفي الذي يكتنف كل لوحة، هو الذي يقودنا الى أيما مكان وزمان، ولن يكون هذا في نهاية المطاف إلّا ذاكرة نادرة تستفيض بالكشف حد انارة الاعماق.

هكذا شيد سالم الدباغ الفنان والانسان آخر احلامه الجميلة، وما كنا ندري انه كان يحمل هذا القدر من الهمّ الانساني والفني، كان يحلم أن يعيش كما يتمنى، ويحلم بوطن ينهمر فيه المطر مثلما ينهمر اللون من بين انامله، لكن الوطن لم يحتويه، فغادر ولم يعد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram