ستار كاووش
الكثير من شعوب العالم، أو ربما كلها عانت في وقت من أوقاتها من الحروب، هذه الحروب التي أخذت أشكالاً عديدة ومتنوعة، وتغيرت أسلحتها مع إختلاف الوقت وتعاقب الأجيال. حروب تبدأ عادة بشيء بسيط وصغير وربما عابر، ثم يتطور هذا الشيء ليكون حدثاً يمتد الى حرب يتكفل عامة الناس مع الأسف ثمن إندلاعها،
ويسددون بعد ذلك تكاليف إطفائها. ومن أغرب الحروب التي حدثت في التاريخ هي حرب الجعة شمال هولندا. فهذه الحرب التي حدثت قبل أكثر من خمسمائة سنة، مازال تاريخ البلد يذكرها ومازال التندر بها قائماً، والسخرية منها مازالت جارية، حيث يتعجب الجميع من سبب إشتعالها. نعم، كانت حرب الجعة حدثاً إستثنائياً في الأراضي المنخفضة، حيث يُعتبر هذا الشراب شيئاً أساسياً في حياة أبناء الشعب الهولندي الذين كانوا في القرون الوسطى لا يشربون الماء نهائياً، لأنه ملوث ويحمل الكثير من الجراثيم، لذا كان الجميع بما فيهم الأطفال يشربون هذا الشراب الخالي من الجراثيم، لأنه يتطلب تسخينه وقت التخمير، وبذلك يتخلص من الجراثيم. وفي ذلك الوقت وصل معدل شرب الجعة الى ثلاثمائة لتر في السنة للشخص الواحد، أي ما يعادل ثلاث قناني صغيرة في اليوم الواحد. وكان الهولنديون حينها يقومون بالتخمير عادة في البيوت. وبسبب حاجتهم الماسة الى هذا الشراب، بدأت تظهر المصانع الصغيرة للجعة.
وهنا كان عليهم في شمال البلاد أن يضعوا قوانيناً تتحكم بذلك، وتكوين ما يشبه النقابات لصانعي الجعة. وأحد تلك القوانين كان منع جلب الجعة من خارج المنطقة وبيعها، وإلا ستتعرض الحانة أو مكان البيع الى الغلق والمسائلة، وربما السجن. مع الوقت صار عصير الشعير هو الشراب الأول بالنسبة لكل الشعوب الجرمانية بما فيها منطقة فريسلاند، شمال هولندا، والتي جرت فيها أحداث شغب وحرب الجعة. وما جعل هذا الشراب مهماً، هو إن الناس هنا لم يتعرفوا على الشاي ولا القهوة في ذلك الوقت، كذلك لم يكن هناك تصنيع للنبيذ او البراندي. ورغم حبهم للحليب، لكنهم لا يستطيعون الإحتفاظ به لفترة طويلة، فيما يمكن حفظ الجعة لفترات طويلة، وهذا ما جعلها الشراب الشعبي والرئيسي.
في القرون الوسطى بدأت المدن تسيج بالأسوار وعبدت الشوارع الضيقة، وصغرت مساحات البيوت، لذا كان على الناس شراء الشراب من المصانع التي أخذت تتكاثر، بدلاً من تحضيره في البيت. وفي نهاية القرن الخامس عشر بدأ الإزدهار الحقيقي لمصانع الجعة في شمال هولندا، وإنعكسَ ذلك على تقاليد وثقافة الناس وحتى عاداتهم. حيث صُنِّفَتْ أنواعاً لا حصر لها وصارت تلائم كل مناسبة، فمثلاً نوعية (بيرن بير) تُشرب إحتفالاً بإستقبال مولود جديد، ونوعية (دوب بير) تُشرب أثناء التعميد في الكنيسة، ونوعية (ليفده بير) تشرب أثناء الخطوبة أو الزفاف. أما خلال الجنازات فهناك نوعاً خاصاً من الجعة التي تمنح الناس شعوراً بالهدوء والصمت. وأنواع كثيرة أخرى لا يمكن حصرها، حتى وصلَ الأمر الى إن الناس لَمّا بدأوا بإستعمال القرميد على سقوف البيوت، صنعوا نوعاً للإحتفال بهذا الغرض، سموه (جعة القرميد).
كانت مدينة هارلم غرب هولندا هي الوحيدة التي تنافس الشمال بهذه الصناعة، ذلك لأن المياة التي يصنعون منها الجعة تأتي من من منطقة كثبات رملية ماءها صافي، لذلك شاعت جودة هذه الصناعة، لكن هذاالإنتاج كان ممنوعاً من الدخول الى شمال هولندا، لأن قوانين الشمال كانت تمنع دخول أية جعة ليست من صناعتهم، كي لا يتأثر (شرابهم الوطني). لكن حدث ما ليس في الحسبان حين قام أحد أصحاب الحانات بتهريب أحد البراميل من مدينة هارلم الى منطقة فريسلاند الشمالية، وكان مذاق ذلك الشراب المحرم مذهلاً لمن جربه خلسة. لكن حين أكتشف أمر ذلك البرميل، بدأت المشاكل والمماحكات التي تحولت الى شغب، تطور الى الحرب التي سُميت في التاريخ بحرب الجعة، والتي راح ضحيتها الكثير من الناس وتدمرت البيوت والكثير من القرى وتحطمت العديد من الأسوار ومصانع الجعة. وهكذا غيَّرَ هذا المشروب تاريخ المنطقة، التي عادت في القرن السادس عشر للبناء والتطور من جديد وصار هذا المشروب لا غنى عنه في كل البلاد، وإعتبره الناس شيئاً وطنياً يشير الى روح هذا البلد الذي يتمتع بالبهجة والألفة وروح الإحتفال. الجميل هو عند زيارتي لمتحف البيرة في هولندا، واجهتني يافطة وُضعت في مدخل المتحف، كُتبَ عليها باللغة الهولندية (هذا الشراب الساحر الذي نحبه ونعتبره شرابنا الوطني، قد تم إبتكاره لأول مرة قبل خمسة آلاف وخمسائة سنة في العراق).