اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > فاضل ثامر: أسعى إلى تأسيس حداثة نقدية من التلاحم الجدلي بين الاجتماعي والأيديولوجي والمعرفي والواقعي

فاضل ثامر: أسعى إلى تأسيس حداثة نقدية من التلاحم الجدلي بين الاجتماعي والأيديولوجي والمعرفي والواقعي

نشر في: 27 فبراير, 2023: 11:51 م

في كتاباتي النقدية الجديدة أسعى للكشف عن”أدبية”النص أو شعريته، و عوامله التكوينية ومرجعيته

حاوره: علاء المفرجي

كتب الناقد د. مالك المطلبي عن فاضل ثامر: فاضل ثامر أحد ابرز النقاد العراقيين الذي ظل امينا على رسالته النقدية، وساهرا في مختبره النقدي طوال خمسة عقود، لم يكن، ولم يتراجع، وكان ابرز صفاته الاصغاء الى الآخر،

وإقامة الحوار مع القرين. لقد حاور عشرات المؤلفات لمعاصريه، في جميع الاصقاع، كما اسهم في إدارة سجالات لا تتوقف من اجل إبقاء الحياة النقدية العراقية حية وفعالة وقد مكنته لغته الانكليزية من رؤية المشهد المعرفي العالمي بوضوح ومباشرة.

كما ان قراءته التراث العراقي، والعربي، والعالمي، كانت جزءاً من صميم متطلبات تقتضيها مهمة من ينتدب نفسه للعمل في هذا الحقل الشامل. ان مؤلفاته النقدية السبعة تضج بالمعرفة النقدية، وجهازها الاصطلاحي والمفاهيمي، وقد زود هذا جيل الشباب بمعرفة اغنتهم عن قراءة الكتب المتخصصة في بواكير حياتهم. قد يكون الخلاف مع الفكر النقدي الذي تبناه فاضل ثامر، هو أحد مزاياه التي عرف بها، فالعمل الحقيقي هو مثير خلافات اكثر منه مثير توافقات.

تقتضي الكتابة عن ناقد قضى في مشغل النقد ما يقرب من خمسين عاما، تتبع اثره، وهو اثر يقع في مسالك ملتوية في معارج الزمان والمكان، بين الايديولوجيا الصماء والحرية المنفلتة، بين خطاب القدامة المغلق، وخطاب الحداثة المفتوح، بين هيمنة الاخر وهيمنة الانا، بين الشرح والتأويل، بين الموضوعية المقتضاة، والذاتية المناورة. . . هذه البينية هي حبكة المحتوى النقدي لفاضل ثامر، وفي مسيرة نقده، من اوله الى يومنا هذا. وقد تشخصت بينيته عبر مصطلحين، اعدهما مفتاح فهم منطلقاته واهدافه، وهما (الاحالة) و(المواءمة).

الاحالة موسومة بالمرجع، والمرجع هو القوة المتعالية التي تكتب الكاتب قبل ان تسمى الملكية المادية والمعنوية باسمه. الكتاب والنقاد الاحالايون، غير الرسميين ينظرون الى ان شرعيتهم لا تنبع من فرض سلطة المرجع عليهم، بل تنبع من اختيارهم لتلك السلطة، كنوع من الاركان الميتافيزيقي. سنسمي المرجع باسم العقيدة. والعقيدة ليست طفرة عقلية، بل هي الاول الذي يجذر وجوده في تربة العقل، يزرع فينا قيمه ببصيرة واناة، مستخدما جميع الوسائل الارغامية، التي ستبدو، في ما بعد، اختيارية، تنبت العقيدة كالاعشاب البرية في تربة العقل، ومع مرور الوقت يأخذ العقل صورة العشب البري الذي لا ترعى فيه سوى التعليمات المقدسة تصبح العقيدة مرآة الوعي الوحيدة.

 وماذا عن كتابك (التاريخ والسردي في الرواية العربية)؟

- وتناولت في كتابي النقدي الآخر " التاريخي والسردي في الرواية العربية " التعالق الملحوظ بين التاريخ والسرد , من خلال منظور حداثي جديد ينظر الى التاريخ بوصفه سرداً كما يذهب الى ذلك الناقد الامريكي هيدن وايت Hayden White بمقولته المشهورة التاريخ بوصفه سرداً Thstory as Narrative. وقد أشرت الى أن الروائي العربي بشكل عام والروائي العراقي بشكل خاص حاول أن يتجنب التعامل مع الوثيقة التاريخية والسجل الرسمي لوقائع التاريخي , وخلق تأريخه التخييلي الافتراضي لعوالم ممكنة من خلال التركيز على القوى والطبقات الاجتماعية المسحوقة، الصانعة الحقيقية للتاريخ , وتجاهل تقديم سير الحكام والطغاة والمستبدين في التاريخ , خالقين بذلك تاريخاً بديلاً ينتصر للمقهورين , وأوضحت أن هذا المنحى – فضلاً عن المنحى الميتاسردي والنزعة البوليفونية قد عززت الى حدٍ كبير الاتجاه الحداثي وما بعد الحداثي في السرد الروائي. وعلى المستوى النقدي أفدت لاضاءة منظوري النقدي الجديد هذا من كتابات بول ريكور , وهيدن وايت ولندا هتشيون وبراندا مارشال ومونيكا فلودنك وسيمون مالباس وروبرت شولز، فضلاً عن منظري ما بعد الكولونيالية امثال ادوار سعيد وغايتاري سبيفاك، وهومي بابا وغيرهم. كما لا يمكن تجاهل مساهمة عدد من النقاد العرب الحداثيين في اضاءة أو تطبيق هذا الميدان ومنهم النقاد (فيصل دراج) و (عبد الله ابراهيم) و(محمد القاضي) و(سعيد يقطني) و(سعيد الغانمي) و(عباس عبد جاسم) و(نادر كاظم) ومحسن الموسوي وصلاح فضل وصبري حافظ، ونادية هناوي اسماعيل وسمير الخليل ومحمد برادة وغيرهم.

وقد تناولت في كتابي هذا روايات عراقية حداثية يتضح فيها التعالق بين التاريخي والسردي للروائيين العراقيين عبد الخالق الركابي وأحمد خلف وجابرخليفة جابر وعلي بدر وسعدي المالح وأحمد سعداوي واسماعيل سكران , وهدية حسين , وانعام كجه جي وخضير فليح الزيدي, ومحمود سعيد , وحميد الربيعي , ومحمد علوان جبر , وغيرهم.

أما كتابي النقدي الجديد الذي يوشك على الانتهاء فسوف يفحص امكانات القراءة التأويلية للنصوص الروائية وتحديداً من خلال الافادة من مفهوم الدائرة أو الحلقة التأويلية Hermeneutic Circle.

وقد تناولت في كتابي النقدي هذا عدداً من الروايات العراقية والعربية الحداثية وما بعد الحداثية والتي تطلبت استقراءاً تأويلياً لها لفك شفراتها وحمولاتها الممرفية والدلالية نظراً لاكتنازها بأسرار ومعميات وإشارات معقدة لا يمكن الوصول إليها عن طريق آليات التحليل السردي أو السيميائي. إن رهاني، في كتابي الجديد، على ممكنات اللعبة التأويلية هو ما دفعني الى تجريب المفتاح التأويلي هذه المرة. كما أردت التأكيد على أن غابة السرد، كما يحلو لأمبرتو ايكو تسميتها يمكن الاقتراب منها ودخول مفازاتها ومتاهاتها عبر بوابات ومقاربات لا نهاية لها.

 وماذا عن كتبك النقدية في مجال النقد الشعري؟

- أصدرت خلال هذه الفترة كتابين مهمين هماً" شعر الحداثة:من بنية التماسك الى فضاء التشظي" عام 2012 و" رهانات شعراء الحداثة" عام 2019، ويضمان معالجات نقدية للكثير من الظواهر الشعرية الحداثية منها دراستي عن الشعر الجاهلي في المنظور الاستشراقي وإشكالية التجييل في الشعر، وشعر الحداثة بين بنية التماسك وفضاء التشظي، ومفهوم انساق التمفصل في القصيدة الحديثة، فضلاً عن دراسات ومقاربات لتجاري العشرات من العراء أمثال السياب والبياتي ونازك الملائكة والجواهري وفاضل العزاوي وسركون بولص وخزعل الماجدي وكاظم الحجاج وموفق محمد وفوزي كريم وعبد الكريم كاصد وعلي جعفر العلاق ومحمد علي الخفاجي وزعيم النصار وعبد الزهرة زكي وعارف الساعدي وعمر السراي وطالب عبد العزيز وجواد الحطاب وباسم فرات وياسين طه حافظ ومحمد تركي النصار وودنيا ميخائيل ورعد عبد القادر ونبيل ياسين وصادق الصائغ عدنان الصائغ وغيرهم.

 كيف كانت تجربتك في ترجمة رواية " الحديقة "؟

- كانت ترجمة رواية "الحديقة "، تجربة مهمة و تمت في ظرف نفسي وسياسي دقيق للغاية. شخصياً ﺇعدّ نفسي ناقداً قبل أن اكون مترجماً , وكما يقال بان الترجمة بالنسبة لي هي بمثابة " استراحة محارب " لأني ارى أن الكتابة النقدية ألصق باسم الناقد وتجربته , أما الترجمة فهي ألصق باسم المؤلف , والمترجم يتحول أحياناً الى مجرد وسيط , قد ينسى الا فيما ندر.

أما الظرف السياسي والنفسي فقد ﺇقترن بصعود نجم صدام حسين الى السلطة واستفحال ممارساته الدكتاتورية الفردية في مطلع الثمانيات, وممارسة فنون الاقصاء والقمع بحق القوى السياسية والمثقفين , وحتى تجاه رفاقه في القيادة القطرية الذي أعدمهم فيما سميت بمجزرة قاعة الخلد , في مثل هذا الجو قررت الابتعاد عن الجو الثقافي الادبي , وحتى التوقف مؤقتاً عن الكتابة النقدية , لكي لا أجد نفسي تحت ضغوط المؤسسة الايديولوجية – الامنية لنظام البعث الشمولي أنذاك. في مثل هذا الجو الخانق قررت اللجوء الى ترجمة رواية " الحديقة " أو الميدان العامthe Square للروائية الفرنسية مارغريت دورا , فكانت الترجمة بالنسبة لي ملاذاً نفسياً وروحياً من كابوس النظام الدكتاتوري آنذاك. ولذا فقد عكفت على الترجمة , دونما مشاغل أخرى , وحاولت قبل هذا وذاك فهم طبيعة الرواية التي تنتمي الى اتجاه الرواية الجديدة الفرنسية التي مثلتها روايات (ألن روب غريبه) و (ناتالي ساردت) و (ميشيل بوكور) و (مارغريت دورا) , وعندما انجزت ترجمة الرواية , لم أكن أتخيل اني قد أنجزت عملاً ترجمياً مهماً , فهو بالنسبة لي محاولة للخروج من أزمة نفسية ومجرد " استراحة محارب " ليس الا. وقد دفعت بالترجمة آنذاك لمجلة " الثقافة الأجنبية " الذي كان يرأس تحريرها الشاعر ياسين طه حافظ الذي استقبلها بحفاوة وقرر نشرها على هيئة كتاب العدد عام 1981. وأخبرني حينها أن بعض المتصيدين من المترجمين العاملين في المجلة الذين لم يكن يروق لهم حضوري آنذاك طلبوا من رئيس التحرير" فرصة" لمراجعة النص لكنهم كما أخبرني الزميل رئيس التحرير فشلوا في أن يعثروا ما يتطلب التعديل أو المراجعة أو التصويب , وعمدت المجلة عام 1987 الى نشر الرواية في كتاب مستقل يحمل اسم كتاب مجلة الثقافة الأجنبية , مع مقدمة كتبتها خصيصاً لذلك , فأخذت الرواية مساحة أوسع من الانتشار.

وأبلغني حينها الصديق القاص (نزار عباس) برغبة الشاعر علي الحلي , الذي كان مترجماً أيضاً في تقديم ترجمة ثانية للرواية , ولذا فقط طلب مني تؤفير النسخة الأصلية التي بحوزتي , وفعلاً أعرتها له (وبقيت حتى اليوم في مكتبته), لكنه أخبر الزميل (نزار عباس) ﺇنه مقتنع بالترجمة , ولا يجد مبرراً لاعادة ترجمتها.

ومما أثار دهشتي يوماً ما , عندما سمعت القاص والشاعر الاردني الفلسطيني ابراهيم نصر الله يتحدث في مقابله تلفزيونية أجاب فيها عن سؤال يتعلق بالروايات العالمية التي أثرت في اغناء تجربته الروائية فذكر أسماء خمس روايات عالمية منها رواية " الصخب والعنف " لفوكنر ترجمة جبران ابراهيم جبرا , ورواية " الحديقة " لمارغريت دورا ترجمة فاضل ثامر. وركز نصر الله على تأثره بالرواية رؤيا ولغةً وترجمة وأسلوباً، وحينها شعرت بالسعادة لأني لم أكن ادرك بأني قد أنجزت ترجمة جديرة بالثقة والتقدير.

ماذا يمثل لك كتاب " قصص عراقية معاصرة" الصادر عام 1971 بالاشتراك مع زميلك الناقد الكبير ياسين النصير؟

-انها تجربة كتابية ونقدية مهمة ذلك انها جمعتني على مستوى التأليف مع صديقي العزيز الناقد ياسين النصير، حيث أشرنا منذ ذلك التاريخ، وربما قبله، بداية جهد مشترك لتقيم رؤيا نقدية منهجية حداثية تؤقن بالموقف الاجتماعي للادب الثقافة. وقد عدّنا البعض نمثل ثنائياً نقدياً ماركسياً، على الرغم من خصوصية كل منا. وكان الكتاب ثمرة استقراء عميق لواقع الاتجاهات القصصية في التجربة الستينية في العراق. وقد عمدنا الى انتقاء أهم النماذج الحداثية الدالة على خصوصية ابداعية لقصاص شبان أكدوا حضورهم اللاحق في المشهد الثقافي العراقي والعربي تحت مظلة جيل الستينات القصصي في العراق. وقد أكدت المختارات القصصية التي انتخبناها، ومهدنا لها بدراستين تطبيقيتين، سلامة إستقرائنا وقراءتنا الموضوعية للمشهد الثقافي والقصصي في ستينيات القرن الماضي فب العراق. وضم الكتاب مختارات قصصية للقصاصين محمد خضير وجمعة اللامي وموسى كريدي وسركون بولص يوسف الحيدري وجليل القيسي وعبد الرحمن الربيعي وعبدالامير الحبيب وفهد الاسدي وغازي العبادي وخضير عبدالامير وغانم الدباغ رمحمد عبد المجيد وأحمد خلف وعبدالستار ناصر ومحمد كامل عارف.

 ما هي أهم ملامح منهجك النقدي والمراحل التي مرّ بها؟

- حاولت في المقدمة الاستهلالية لكتابي النقدي الموسوم "الصوت الآخر:الجوهر الحواري للخطاب الادبي"، الصادر في بغداد عام 1992، ان ابلور ملامح منهجي النقدي تحت عنوان "نحو رؤيا نقدية سوسيو-شعرية جديدة" حاولت فيها المزاوجة بين منظورين نقديين متعارضين، هما المنظور النصي الداخلي، بما فيه من توجهات جمالية ولسانية، وشكلانية أحياناً، والمنظور السياقي الخارجي بما ينطوي عليه من جذور سوسيولوجية وايديولوجية وتاريخية. وبالتأكيد كنت قد أفدت من تعرفي على الاتجاهات الحداثية، وما بعد الحداثية، ومنها اتجاهات النقد الثقافي والسيميائي والقرائي والتأويلي ودراسات مابعد الكولونيالية والنسوية، لاعادة تشكيل منهجي النقدي وسط تحديات الانبهار بالاتجاهات الجديدة والخشية من ضياع الهوية النقدية، واستنساخ تجربة الآخر بطريقة عشوائية او انتقائية ملفقة. وبالتأكيد لم أكن الناقد العربي الوحيد الذي وجد نفسه اسير دوار المناهج والمصطلحات النقدية والمعرفية المتدفقة بلا توقف. وبالنسبة لي قررت ان أتعامل معها برؤية نقدية واعية. فلا افراط ولا تفريط. فالمنهجيات الجديدة امدتني بادوات للتحليل والتفكيك والتأويل والقراءة، لا يمكن لي تجاهلها أو تجاوزها، وفي الوقت ذاته لا يمكن لي الانغماس في متاهتها كلياً. ومن الجانب الآخر، لا يمكن ان اتناسى مسؤوليتي بوصفي إنساناً ومثقفاً عضوياً يتحمل مسؤوليات تاريخية واجتماعية واخلاقية تجاه الآخر والمجتمع، ولا يمكن لي ان أتجاهل الجوهر الاجتماعي للظواهر والاعمال الادبية التي لا يمكن لها ان تكون مجرد بنىً لسانية او القبول بمقولة جاك ديريدا الذى يرى انه " لاشئ خارج النص". وشخصياً أعدّ تلك المقدمة التي بمثابة "مانفيستو" نقدي شخصي، ولكنه غير نهائي لأنه كان يبلور رؤيتي النقدية حتى مطلع التسعينات، حيث شهدت السنوات الي أعقبت ذلك التاريخ تعديلات وتنقيحات مهمة على رؤيتي النقدية تلك. وقد أشرت في ذلك المانيفستو الى ان مقاربة النص هذه التي يمارسها الناقد العراقي، في منحاه الجديد، انما تسهم بهذا المعنى قي انتاج معرفة إجتماعية محددة، الا انها معرفة من نوع خاص متجسدة داخل النص. كما اشرت الى ان الخطاب الأدبي صوغُ جمالي لا يشير الى صوت قائله، او وجهة نظره فقط، بل يشير الى صوت الآخر بوصفه حواراً بين طرفين، وبذا فالخطاب النقدي هو محطة لالتقاء الأصوات و الرؤى في فضاء مشترك، وهي رؤى واصوات تتعايش وتتقاطع في ان واحد، ولكل منها، كما يذهب الى ذلك ميخائيل باختين حياته الخاصة التي تكسب الخطاب الأدبي هذه النزعة التعددية الديمقراطية الخصبة التي يتسم بها كل خطاب خلاق. وأشرت الى ان الناقد عندما يبدأ إشتغاله من النص للكشف عن شعريته أو أدبيته أو أنساقه وشفراته وحمولاته المعرفية، فهو من جانب آخر لايقف امام هذا النص بوصفه وثناً قائماً بذاته، كما تفعل بعض المقاربات الشكلانية و النصية المحاثية، بل بوصفه نتاجاً معرفياً و اجتماعيا ً مكتنزاً له القدرة لتحقيق المتعة الجمالية والحفر عميقا ً في الواقع الاجتماعي وفي الوعي الإنساني في آنٍ واحد. وكنت بهذا أرفض النظرة المحاثية للنص، التي نلمسها عند بعض الشكلانيين والبنيويين، والتي تكتفي بكشف المستويات اللسانية والادبية أو الشعرية والسيميولوجية للنص، بل كنت أسعى لأستكناه الخيوط السرية التي تشد النص الى سياقه الخارجي وتميط اللثام عن الأنساق الأجتماعية وألايديولوجية الثانوية في النص.

ومن هنا تسعى هذه الرؤيا النقدية الجديدة الى تأسيس حداثتها النقدية من هذا التلاحم الجدلي بين الأجتماعي والأيديولوجي والمعرفي والواقعي من جهة، والرمزي والجمالي والتخييلي والشعري او الادبي من جهة اخرى. ونفيت في تلك الورقة ان يمثل اتجاهي النقدي الجديد قطيعة مع اتجاهي النقدي المبكر، بل يمكن القول ان رؤياي النقدية الجديدة تشكل تطويراً و أغناءً لرؤيتي السابقة. اذ لا يمكن للناقد ان يتجمد رؤيوياً ومنهجياً عند صيغ وقناعات وقوالب ثابتة ونهائية. ولذا فقد شعرت بالحاجة الى إعادة تشكيل رؤيتي النقدية في ضوء كشوفات العصر ومتغيراته، ودون ان افارق بالضرورة مواقعي النقدية السابقة أو اقطع الجذور التي تصلني بالارض التي كنت اقف عليها، وتشربت بنسغ الحياة من أديمها.

لقد حاولت في كتاباتي النقدية الجديدة ان اسعى للكشف عن"أدبية"النص أو شعريته، وفي الوقت ذاته عن عوامله التكوينية ومرجعيته وحمولاته المعرفية ورؤيته للعالم. ولذا فقد دعوت الى ضرورة الدمج الفعال، وغير الاصطناعي، بين الأدوات الإجرائية والمنهجية للمناهج والمقاربات الحداثية، بما فيها من وصف وتحليل وتفسير وتأويل وفك لشفرات النص وأنساقه المغيبة من جهة، وبين منظومة القيم الإنسانية والاجتماعية التي تزخر بها التجربة الإنسانية وتلتقطها فنياً التجربة الإبداعية، وصولاً للكشف عن "رؤيا العالم" في النص الأدبي على حد تعبير الناقد الفرنسي البنيوي التكويني لوسيان غولدمان.

وعلي أن أعترف بالدين الكبير الذي أسدته لي المنهجيات والمقاربات الحداثية وبشكل خاص في مجال السردية الحديثة Narratology التي قدمت منهجاً متكاملاً لتحليل وفحص النصوص القصصية والحكايات والمرويات التراثية والفولكلورية والميثولوجية. ومازلت حتى هذه اللحظة، أُعدل في رؤيتي النقدية على وفق الضرورات المنهجية و الإبداعية، وبشكل خاص في أعادة تشكلات الأجناس الأدبية المختلفة، ومنها مثلاً ظهور روايات البنية الميتا سردية، في سبعينات القرن الماضي في الولايات المتحدة واوربا والتي وجدت لها صدىً كبيراً في السرد العربي خلال العقدين الأخيرين، فضلاً عن إعادة فحص العلاقة بين التأريخي والسردي التي بشر بها الناقد والمؤرخ الأمريكي هايدن وايت والفيلسوف الفرنسي بول ريكور وغيرهما.

وأنا أذ استقبل كل هذه الإشارات الخلاقة، لا يمكن لي طبعاً، كما أكدت مراراً، التخلي عن ثوابتي النقدية، الأجتماعية والأنسانية أساساً، والتي تؤمن بالأنسان والمستقبل، وبالعقل الذي يحاول البعض تحطيمه أو شله لأطلاق سلسلة من النظريات اللاأدرية التي تشكك بجدوى الفعل الإنساني لأشاعة نظرية الفوضى الخلاقة والعماء تمهيداً لأستلاب الوعي الإنساني وترويضه وتحويله الى بيدق بيد الجوانب الأستلابية في المنظور العولمي، المظلة الأيديولوجية للرأسمالية المتوحشة في ابشع صورها وتجلياتها.

 الركون إلى التأويل في تلقي النصوص الأدبية لا ينتج عنه معنى آخر غير المعنى الحقيقي، هذا ما تقوله سوزان سونتاج، وإذا كانت سونتاج ترى في التأويل انتقاما للفكر من الفن، فهل توسيع دائرة التأويل عند التعامل مع النصوص إثراء لها وتوسيع لآفاقها؟

-لا يمكن الركون الى رأي الناقدة سوزان سونتاج عن التأويل. اذْ كرست احد مؤلفاتها للهجوم على التأويل وشككت في جدواه. بينما يجمع اغلب الفلاسفة رالنقاد على أهمية الممارسة التأويلية في فحص وتحليل النصوص والخطابات الادبية لدرجة ان احد النقاد يرى ان كك قراءة تنطوي بالضورة على فعل تأويلي، وهذا ما حاولت التأكيد عليه في مقدمتي النقدية لكتابي" الرواية العربية في دائرة التأويل".

 يبدأ كتاب(الرواية العربية في دائرة التأويل) بالولوج إلى كل ما كُتب عن الهيرمنيوطيقا في الفلسفة أو في النقد الأدبي عبر تاريخها الطويل. هل شكلتَ رؤية خاصة من خلالها، وتعاملتَ بها مع النصوص الروائية التي تناولتها في كتابكَ؟

- لقد حاولت ان اكشف عن اهم الاتجاهات الاساسية في ميدان الهرمنيوطيقا، واهمية بعضها، بوصفها مجسات قرائية ما بعد حداثية، وامكانية استثمارها لتقديم قراءة مغايرة للنص الادبي، ومنها التركيز على فاعلية الحلقة او الدائرة الهرمنيوطيقية.

 أشرت إلى أنكَ وسعت دائرة التأويل واستفدتَ من كل ما اجتهد فيه منظرو التأويل ولكنك أيضا أبقيت على النص في المركز، ومنه تنطلق خطوط الدائرة إلى محيطها، والتزمت بما يتناسب ورؤيتك النقدية. . ما تعليقك؟

- اتفق معك الى حد كبير في هذا الاستنتاج اذْ اعتمدت على مفهوم الحلقة او الدائرة التأويلية في قراءة النصوص الروائية لانه يتيح الفرصة للناقد بالتحرك المرن بين المركز المتمثل بالنص وبين الهامش او محيط الدائرة الذي يضم مرجعيات سياقية خارجية مثل التاريخ والمؤلف والايديولوجيا وعدم الاقتصار على فحص البنية النصية بوصفهابنية محايثة ومكتفية بذاتها كما يذهب الى ذلك الشكلانيون. وهذا الامر يتفق مع رؤيتي النقدية السوسيو-شعرية والتي تجمع بين القراءة الداخلية والقراءة الخارجية او السياقية ففي هذه الحالة انطلق من النص ولكن دون ان اسجن نفسي داخله، ثم انطلق كلما كان ذلك ضرورياً، الى محيط الدائرة لاضاءة المرجعيات السياقية او الخارجية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram