TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: الموتُ في كلمة لا مرادفَ لها

قناطر: الموتُ في كلمة لا مرادفَ لها

نشر في: 4 مارس, 2023: 10:02 م

طالب عبد العزيز

كتبتُ أكثر من استهلال قبل المُستهل الفقير هذا ومحوته، فقد أردتُ أنْ أكتب في السياسة لكنني، رأيتها نتنةً كريهةً فعافتها نفسي، وقلتُ شيئاً عن الشعر فلم أعثر على قول ذي معنى أتقبله، وفتشت في المسودات حيث احتفظ وأرعى، فما وجدت فيها ما ينسجم مع اللحظة الرمادية، التي أنا أسيرها.. يحدثُ هذا عند بداية كلِّ اسبوع، فأنا أعاني من كتابة مادة الجريدة. ساعات من القرف تنتابني، تتسبب بغثيان لغوي، وبين نصائح الاصدقاء القائلة بانَّ الكتابة الصحفية تقتل الشعر وتصديقي لها أجدني الحائر الاكبر.

كنت قد أخبرتُ المقربين منّي، ممن يعيبُ عليَّ المادة هذه أو تلك، بأنني أكتبُ في الصحافة لإكمال تكاليف العيش، لا أكثر، ومتى وجدت إدارة الجريدة ما تشينه عليّ سأصمت. ولا أظنني ناشزاً في هذه، فقائمة الأدباء الذين عملوا في المهنة هذه لتأمين أسباب العيش طويلةٌ، ولا حاجة لذكر أحدٍ. هل في ذلك إذلال؟ نعم. وهل تأخذ الصحافة من جرف الشاعر والكاتب؟ نعم، وبكل تاكيد! لكنْ، ما الحيلة؟ أعرفُ أنَّ أمرَ الكتابة في الجانب الاخطر من الحياة مكلّفٌ، وفيه ما فيه من الفتوق والاوجاع، وأنَّها تقود الى تلفيظ الذات (بمعنى تحويلها الى ملفوظات، تمر عبر وساطات كلها ذات طابع اكراهي) بحسب فوكو، وهو أمر بالغ الإيذاء، لكنْ، لا وليمة إنْ لم تحتز السكينُ عنقَ الذبيحة، وتبلغ الفضاءَ بها مدماةً.

أبدلتُ العلبةَ(مستودع الاقلام والمماحي والبرّايات...) الزرقاء، التي على المنضدة بأخرى، مختلفةً عنها بالحجم واللون، وأخفيتُ القديمة في دُرج مظلم، وانزلتُ الساعة الرميلة-إحدى ألعابي في الضجر – من رفِّها الأعلى، وطويلاً انتظرتُ الحبّاتَ، حتى امتلأ الوقتُ بالرمل، ثم مسحتُ عدستا نظارتي، كنتُ قد مسحتها قبل قليل، وكان عليَّ إسكاتُ صوتِ برّاد الماء، كان يحجب الهواء عنّي، ثم راحت عيناي تجولان في أرض وسماء الغرفة، بحثاً عن تكوينٍ، أيِّ تكوين لا يستفزّني فلم يجدا شيئاً. هناك، ما لا يُستألفُ في كلِّ ما أرى. قبحٌ راسخٌ مثل طين أسود يدويّ في رأسي. ليست المرة الاولى هذه، ولن تكون الاخيرة، التي تتنكرُ لي فيها لغتي. غالباً ما تتآمر مشاعرنا علينا، فتنسينا ما كنا عليه ذات، أنا لا اتحدثُ عن لحظتي بوصفها شخصيةً وعابرةً، ابداً. لكنني، أرددُ ما قاله نيغوين بانثيو:" ليس عليَ أنْ أقولَ قصصي لمستمعين شديدي الانتباه".

ما لم يقترب الشاعرُ أو الكاتبُ من ذاته لن يتحقق فعل الكتابة. نحن لا نملك قراراً أمام البؤس الذي يتربص بنا كلَّ يوم من حياتنا، هذه الحياة التي يمكن أنْ تُسلب منا في أيِّ لحظة، ودونما سبب، كما هي عند بول أوستر. كان محمود البريكان يعيبُ على بعض الشعراء تهويماتهم، وكتابتهم خارج ذواتهم، حتى لكانهم من كوكب آخر يقول. لماذا لا أبكي الطفل الذي يملك سروالاً واحداً وقد حان وقت الذهاب الى المدرسة؟

أسرارٌ لنا في الطين، وفي التراب براهينٌ على الحياة. في حلفاء الماضي شفراتٌ لا يقدر على حلّها العابرُ المستعجل. هناك لغة تتجاوز حدود الأبجديات، يفهما المستظِل بنخل ابيه، وحده القادر على ترتيب فهرست لمعجم الذهاب والإيّاب، هذا الخارج من لفائف السعف، أبداً، المتعثر بالعراجين حدَّ الموت. لا يستجيب للّغة المهجورة هذه الا الذين طال وقوفهم خلف جذوع التوت، أولئك الذين لا يغيّر انتظامُ المواسمِ وجهاتِ نظرهم عن اليقطين. ترى، لماذا لا أصدقُ أنا أخماتوفا وهي تقول : إنَّ ثقافة المرأة تقاس بعدد عشّاقها؟ وكيف ستلقاني وقد ضمرَ وجفَّ نهر طفولتي، واكتست أسماكُه ألوان القناني الفارغة؟ يا صديقي: لماذا لا يبدأ الموتُ في كلمةٍ لا نجدُ مرادفاً لردِّها ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram