اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > بوادر التأسيس للسرد الشعبي

بوادر التأسيس للسرد الشعبي

نشر في: 4 مارس, 2023: 10:14 م

د. نادية هناوي

تتمثل أهم المنابع التي منها يستقي الهامش تنوعه الثقافي في ما يتوفر له من عمومية، معها تختفي كل التحرزات التي يمكن لها أن تثير حفيظة المركز الذي له من القوة ما يستطيع معها كبح خطر انفلات الهامش، مصادرا حريته وربما معاقبا لا نظاميته بالترهيب والقمع والتكميم.

وعلى الرغم من ذلك كله، فإن للهامش وسائله التي بها يستطيع أن يُظهر ثقافته إلى السطح خلسة ومواربة. ومن تلك الوسائل اللعب المجازي الذي يجعل الهامش تابعا يستطيع أن يتكلم بشيء ويعني شيئا آخر، ملمحاً غير مصرح ومدارياً غير كاشف.

ويبدو موقف المنظومات المركزية اليوم من الفلسفات المعبرة عن تطلعات الهوامش أكثر مرونة. وهو ما يعطي الهوامش نصيبا أوفر يمكنهم من إظهار طاقاتهم والإفادة منها في زعزعة رسوخ تلك المنظومات وقلقلة ثبات تقاليدها.

وإذا كان تاريخ الفلسفة قد شهد تحولات مهمة اقتربت في بعضها من الهوامش لاسيما فلسفات ما بعد الحداثة التي حطمت مركزية اللوغوس، فإن أثرها في أدبيات السياسة والاتصال يظل محدودا. ولعل أقدم الأجناس الأدبية كانت في الأصل شعبية ولا نظامية لكن المنظومة الأدبية هي التي عززت تقاليدها وجعلتها نظامية. وإذا كان أساس تشكل الثقافة الأدبية هي الكلمة بوصفها بنية لفظية، فإن الكلام هو الوحدة اللغوية التي بها تتمكن الآداب الفرعية من أن تصنع أنساقا خطابية خاصة بها. وتتوقف أدبية الخطابات على المتكلمين وطبيعة مستوياتهم الثقافية، وأكثر خطابات الأدب الشعبي هي شفاهية ومتحررة أي لا ترتكن إلى التقاليد بعكس خطابات الأدب الرسمي التي ترتكن إلى التقاليد ولا تسمح بالانفلات من أسرها إلا بثورات ونزعات تحديثية تحتاج وقتا حتى تثبت نجاعتها في خرق ثوابت المركز وتغيير بعض أعرافه.

وتحررية الأدب الشعبي هي التي تجعله موضع رصد الثقافة الرسمية ما بين الإفادة مما فيه من الجدة والحيوية وبين حظر أو تغييب بعض صور تنوعه وبالشكل الذي يناسب المركز ولا يؤثر في سلطويته، بل يغني شأنه من خلال استغلال ما في الهامش من غنى إبداعي ثم توجيهه توجيها يخدم ثقافة المركز الرسمية ويساهم في تدعيمها لاسيما في الأحوال التي فيها يكون المركز في أوج قوته ويكون الهامش في أتعس مراحل ضعفه.

وإذا ما لمس المركز أية بوادر ثقافية تصدر عن الهامش فيها جرأة وتمرد على مواضعاته وأعرافه التي رسخها، فإنه يئدها وقد يتعسف في اضطهاد الهامش بالمجموع. أما إذا تمكن الهامش من ايصال أدبه إلى المركز، فعندها لن تنفع أية معالجات يقوم بها الأخير من أجل درء خطر هذا الأدب أو الحد من انتشاره إلا إذا استخدم القوة كعلاج أخير به يخمد هذا الخطر.

ولا يمكن للأدب الرسمي أن يلتقي بالأدب الشعبي إلا كالتقاء التابع بالمتبوع والمركز بالأطراف والغالب بالمغلوب. وقد تكون نوايا الثقافة الرسمية صادقة في نقل خطابات هذا الأدب فتمنحها الشرعية على أساس إشاعة جمالياتها ولكن يظل الأدب الشعبي في مرتبة أدنى دوما من مرتبة الأدب الرسمي مع أن الأول أغنى في محتواه وأوسع في مداه. وهو ما يجعل رمزية الخطابات الشعبية خاضعة لما سماه بول ريكور(الإحالة والمغزى) وبهما تحتال الأطراف على المراكز وتهيمن التوابع على الأقطاب فلا تكون الثقافة الشعبية مثار شبهة.

وغياب المنشيء أو المؤلف في خطابات الأدب الشعبي هو ما يسمح للثقاقة الرسمية تضمينها في خطاباتها كمؤلفة لا كناقلة. وبمقدار ما يتحرر الخطاب من منتجه الشعبي وينفتح على منتجه الرسمي، يكون فعله الثقافي مؤثرا في المركز ومساهما في إحداث نقلات أو إجراء تغييرات أو ربما عمل شروخ داخل المركز، تنتج عنها بمرور الزمن تبدلات في موازين القوى ومواقع التأثير. وهذا التعارض في الموازين والمواقع ليس مخصوصا بثقافة مجتمع دون غيره، بل هو سمة عامة في المجتمعات البشرية على اختلاف أصولها ومكوناتها. ومن ثم يكون طبيعيا انقسامها إلى هامش ومركز وكذلك انقسام آدابها إلى شعبية ورسمية، ويظل السرد هو الأهم في التعبير عن هذا الانقسام.

والسمة الأكثر شيوعا في السرد الشعبي هي الشفاهية التي تمد السرد الرسمي بالجديد من ناحيتي الأشكال والثيمات التي منبعها قاعدي تحتي لكن مصبها سطحي فوقي. وبهذا التمازج الثقافي بين السردين الشعبي والرسمي يتم توصيل أفكار مخاتلة وغير اعتيادية جريئة وساخرة وعامية وإباحية وفجة ومحظورة باعتماد المجازية التي تجعل المقاصد مواراة تتدارى بالتهكم ومعارضة تتمظهر بالانتقاد من خلال توظيف أبطال وضيعين ومغلوبين على أمرهم يثيرون الشفقة والاستهزاء كمجانين أو مجذومين أو لصوص أو مكارين أو مرضى أو متسولين أو بخلاء..الخ. ولقد عرفت ثقافتنا العربية أبان الحكم العباسي واقعاً اقصائياً هو ليس بالغريب، فكل سلطة لا تتسيد إلا بأن تقصي بقوتها العسكرية النظامية قوة أخرى تماثلها بشرية وغير نظامية.

وإذا كانت مركزية السلطة قد عضدت مكانة الشعر وجعلت نظام القصيدة طاغيا على أي نظام أدبي آخر على اختلاف أجناسه وأغراضه وأنساقه، فإن النثر كان هو الأكثر تضررا من تلك المركزية فلم يكن بوسع الناقد الإفلات من أسر الشعر. وإذا كان للناقد أن يقف عند النثر فلا بد من تناول الخطبة والخطباء الذين كانت لهم ـ كما للشعراء ـ مكانة مهمة عند أصحاب النفوذ والمركز. وفي ما عدا ذلك لم يكن ممكنا للناقد في ظل المنظومة الثقافية والنظام الاجتماعي السائدين آنذاك أن يتناول أي نوع نثري موضوعه جمهور العوام.

وظهرت طبقة من الكتّاب استطاعت جلب الأدب من منطقته التحتية حيث المشافهة والرواية إلى منطقة فوقية حيث الكتابة والتأليف. ولا يخفى مقدار الجرأة في هذا السبق إذ ليس من السهل الجمع بين ثقافة شعبية مقصية وثقافة سلطوية مهيمنة من دون اثارة حفيظة الرقيب وارتيابه. ولا يخفى ما كان لهذا الرقيب من أهمية أبان هذا العصر المحتدم بالنزاع على السلطة خصوصا ما جرى بعد وفاة هارون الرشيد من اضطرابات سياسية خطيرة في بغداد وقتل الأمين. فتعقد الوضع السياسي وتأزمت أحواله وتأثر الأدب العربي بذلك وتنوعت أساليبه. ولو استحضرنا مراحل تطور أدبنا لوجدناها مقترنة بإيقاعية الثورات السياسية والانقلابات وتغير مراكز القوى.

وأخذت بوادر الاهتمام بالأدب الشعبي تتضح أول الامر في كتابات الجاحظ الذي عرف بنزوعه الجلي نحو الإفادة مما في هامش المجتمع من أقوال أدبية وممارسات طقسية كامنة غير مستثمرة في الأدب الرسمي. ولم تكن مراهنته على جلب الأدب الشعبي من قيعانه التحتية واظهاره على السطح بعلانية على مرأى ومسمع السلطة بالأمر اليسير لكن الذي سهّل هذه المهمة هو الأدب الشعبي نفسه الذي تقوم أساليبه على الترميز كطريق آمنة في المواربة وتوصيل أفكار تبزُّ مركزية السلطة وتهدد هيمنتها وقد تطعن في شرعيتها مازجة الايديولوجي باليومي وعاقدة لواء معارضتها بالدرجة الأساس على الدين والأسطورة في شكل شعر أو حكايات شعبية تنتقد النظام الاجتماعي وما فيه من أعراف وعادات تفضح التفاوت المهول بين السلطة وما تملكه من ثروات ومكانة وبين الشعب وما يعانيه من الفاقة والحرمان.

ولم يكن للجاحظ أن يبادر إلى استثمار الرأسمال الثقافي الكامن في الثقافة الشعبية لولا انحداره هو نفسه من هامش المجتمع فأرادت الثقافة الرسمية أن تستثمرته لصالحها لكنه مع ذلك عرف كيف يديم الدورة الثقافية ما بين مركزية الثقافة وهامشها. وأبدى وعيا نقديا وبشكل لا يخلو من الجرأة خارجا على ما هو معهود من مواضعات النقد آنذاك وسياقاته الرسمية، منتصرا لأنواع أدبية أقصتها هيمنة القصيدة كما وجَّه الأنظار نحو أشكال كتابية أعلت شأن النثر. وبامتلاك الجاحظ لوعي كتابي تسنده موهبة أصيلة، استطاع أن يفلت من قبضة الرقيب الصارمة متخذا من الأدب وسيلة كتابية منفتحا أولا على آفاق اكثر رحابة وأصالة وممررا الادب الشعبي من خلال الادب الرسمي ثانيا، منتميا إلى ثقافتي المركز والهامش وموجها أدبه وثقافته وتقاليده باتجاههما ثالثا.

ويخطئ من يظن أن الجاحظ في إهدائه كتبه إلى الوزراء كان كاتبا رسميا يهادن السلطة السياسية. وإنما هو كاتب أدبي اتبع أسلوبا دبلوماسيا مكّنه من تمرير ثقافة العوام إلى المركز بقصد تغيير نظرة الخواص الازدرائية إلى الهامش وما فيه من غنى وثراء. وما ساعده على ذلك مكانته الأدبية التي احتلها بين مجايليه.

ولا تتنافى نزعة الجاحظ السردية في التعدد والانفتاح مع نزوعه المعتزلي وأصوليته الفكرية كما لا تتعارض مع نزعته النقدية في جمع الجد بالهزل والفلسفة بالتخييل والتاريخ بالسياسة واللغة بالادب والعقائد بالتصوف. وتحايل مستثمرا براعته في الجدل السفسطائي مرتقيا من خلال هذا التحايل بثقافة القاع السفلي لتكون في مصاف ثقافة السطح الفوقي. فألّف حكايات وقصصا عن الموالي والعوام ووصف الخواص ووقف عند مفسرين ومتفقهين ومتكلمين كما وقف عند لصوص وشحاذين وسوقة وتناول شعراء وخطباء وقصاصين وتحدث عن أمم بائدة وحضارات غابرة. وكان من تأثيرات سرديات الجاحظ أن زالت بعض الحواجز أمام النثر وعلا شأنه، وتمهد السبيل لظهور نوع سردي سيعرفه أدبنا العربي هو (المقامة).

ولا يخفى ما تحتاجه كتابة المقامة من غوص في الواقع التحتي الذي يعيشه المكدي كما تحتاج حسا فكاهيا بواسطته يستطيع الكاتب توصيل نقده الاجتماعي الى المركز بطريقة مجازية وغير مباشرة. وهذا كله نجده في سرديات الجاحظ التي وإن كانت تأثرت بالقصص المترجمة عن الفارسية فإنها كانت تملك مقومات نجاحها، منها واقعيتها الصميمية اللصيقة بالمجتمع العربي، ومنها رمزيتها وفكاهيتها اللتان بهما غدا الهامش بمصاف المركز، فظهر لأول مرة أصحاب المهن كالخياط والعلاف والجبائي أعضاء فاعلين لهم أهميتهم للمجتمع كما لهم هويتهم ووجودهم. ولولا إن الجاحظ انحدر من هذا الهامش لما عرف غناه ونقائصه وشعر بأهمية العوام وخطرهم فلم يكن متعاليا ولا مقلدا يريد التقرب إلى المراكز، بل على العكس أفاد من قربه من السلطة فنقدها بشكل غير مباشر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram