لطفية الدليمي
تناولتُ في مقالتي قبل السابقة مبنى (زها حديد) الجديد للبنك المركزي العراقي. كانت أطروحتي الرئيسية أنّ هذا المبنى جاء تنفيذه في وقت يمكن وصفه في أقلّ تقدير بأنه غير ملائم؛ إذ يبدو وكأنّ المبنى يرادُ منه سترُ جسد بغداد المعتلّ والمشوّه بنيوياً ووظيفياً.
عمائرُ (زها حديد) تصلحُ أن تكون بصمة حداثية في أماكن إكتملت عناصر بنيتها التحتية ولم يبقً لها سوى إضافة أكسسوارات حداثية موقّعة بأسماء أكابر المعماريين في العالم لتكون تذكرة تعريفية لها في عالمٍ يهوى هذه الاكسسوارات لأسباب تسويقية ومالية تتخادم فيها أطراف متعددة. دعونا لاننسى دوماً: المال بؤرة تتمركز عندها شخوص ومصالح وأهداف وسياسات - فردية وجمعية - قد تبدو متنافرة أحياناً.
توقعتُ بالطبع ردّات فعل وتعليقات كثيرة مؤازرة لفكرتي أو مضادة لها، وهذا أمرٌ صحي وطبيعي في كلّ موضوعة جدالية بطبيعتها. تعدّدت التعليقات المعاكسة واتخذت أشكالاً شتى. أمسك بعض المعلّقين بإشارتي إلى المعمار (حسن فتحي) وتشكيلاته الطينية المدهشة وفهموا الموضوع وكأنه دعوة لإحياء عمارة الطين. نعم، الطين أقربُ إلى روح الانسان من الخرسانة؛ لكنّ هذا لن يعني الإحلال الكامل للطين محلّ الخرسانة. آخرون حوّلوا الموضوع بأكمله إلى محاكمة لسياسات الهوية، وانقلب الموضوع بأكمله تناولاً لعراقية (زها حديد) الجينية مقابل ثقافتها وبيئة عملها الانكليزية (والغربية بشكل عام). تركوا عمائر (زها حديد) وانشغلوا بخريطتها الثقافية وتضاريسها المهنية وأصولها السياسية المتحدّرة من أب له بصمته في السياسة العراقية.
كلّ هذه التعليقات جميلة ومقبولة وتزيد الموضوع المطروح ثراء وفاعلية في الفضاء الثقافي العراقي والعربي. يبقى تعليق واحد فقط أريد الاشارة له بحزمة مكثفة من الاضاءة والتنويه، وهو التعليق الذي آثر أصحابه أن يبتدئوا كلماتهم فيه بعبارة (هذا الرأي خارج نطاق الاختصاص!!). يقصدون بالطبع أنّ أيّ رأي بشأن عمائر (زها حديد) أو سواها لن يكون مقبولاً مالم يكتبه متخصصون، والمتخصصون هنا هم معماريون كما سيُفهَمُ من سياق عبارتهم. هكذا إذن: تكلّمْ ماطاب لك الكلام لو كنت معمارياً ؛ أما لو كنت غير ذاك فاسكتْ.
ثمة تسويغان يمكن تقديمهما في شأن التخصص بمقدار مايختصُّ الامر بمقالتي: الاوّل يفيد بأنني لم أتعدّ حدود الاختصاص المعماري في حيثياته الضيقة. هل تراني تناولتُ التوزيعات الفضائية للكتل المعمارية في عمارة مبنى البنك المركزي العراقي؟ هل تناولتُ أحد العناصر المعمارية المستخدمة في درس (التصميم المعماري) وهو أهمّ درس في الدراسة المعمارية كلها ويترتّبُ على مخرجاته مشروع آخر السنة؟ هل تناولتُ جوانب من التصميم الانشائي والصحي والميكانيكي والكهربائي في المبنى؟
كلّ تخصّص دراسي يتأسسُ على جملةٍ من دروس الاختصاص Core Subjects، تساندها دروس ثانوية قد تبدو بعيدة عنها أحياناً. في الجامعات الامريكية ثمة منهاج للانسانيات يدرّسُ في كلّ أقسام العلوم والهندسة، يختارُ منه الطالب موضوعات إختيارية في الفلسفة أو علم الاجتماع أو تاريخ الافكار أو الاقتصاد أو السياسة،،إلخ. الفكرة واضحة: هم لايريدون تخريج طلابٍ عُمْي القلوب عمّا في هذا العالم من أفكار قد تتصارع أحياناً وقد تتناغم أحياناً أخرى.
هذا هو جوابي المباشر لمن يريدُ إختزال مسعاه النقاشي بعبارة (هذا الرأي خارج نطاق الاختصاص). أقولُ له أنا أحترمُ رأيك ولم أتعدّ نطاق الاختصاص (الصلب). القاعدة في العمارة – كما أرى – هي التالية: كلّ العناصر الحاكمة للتصميم المعماري داخل المبنى هي إختصاص المعماريين؛ لكنّ كلّ العناصر الحاكمة للمشهد الواقع خارج نطاق المبنى هي إشتغال ثقافي عام يتشاركه المعماريون وغير المعماريين.
في أغلب بلدان العالم تدرّسُ العمارة في نطاق مايسمى مدرسة العمارة School of Architecture بدلاً من جعلها قسماً في كليات الهندسة. ترى في مدارس العمارة أناساً من أصناف شتى: فنانين وكتاباً ورسّامين ومؤرّخي أفكار وفن وفلاسفة ومخططي مدن. هل ننسى (والتر غروبيوس) ومدرسته (الباوهاوس) التي ظلّ يؤكد فيها على قيمة المشغولات اليدوية في الممارسة المعمارية؟ العمارة إشتغال ينطوي على الكثير ممّا يهمّ البشر، وأظنّه أكثر التخصصات المهنية إقتراباً من حياة البشر واحتكاكاً (مباشرا) بحياتهم؛ لذا كانت العمارة مدخلنا الأوّل إلى عالم الحداثة كما أكّدتُ في مقالتي السابقة.
قبل أن أشرع في كتابة مقالتي هذه تصادف أن وجدتُ في الصحافة العالمية إحتفاء بمقالة حديثة كتبها هنري كيسنغر وإثنان من زملائه في صحيفة الوول ستريت جورنال. المقالة عنوانها (ChatGPT Heralds an Intellectua Revolution). ماأثرى هذه المقالة التي ساهم بكتابتها رجلٌ عاش قرناً حافلاً بالمسرات والأهوال وشهد ألواناً من الخبرات التي قلّما تتاح لآخرين. لم نسمعْ أحداً يقول لكيسنغر: أنت تكتبُ خارج الاختصاص. كيسنغر نفسه كان قد ساهم مع زميلين له (هما ذات من شاركاه كتابة موضوع الوول ستريت جورنال) في تأليف كتاب عن الذكاء الاصطناعي كتبتُ مراجعة له في موضوع منشور سابق لي. يجب أن يكون واضحاً أنّ كيسنغر لايكتبُ مقرراً دراسياً في الذكاء الاصطناعي بقدر مايتناول جوانب سياسية واقتصادية وفكرية مؤثرة في موضوعة الذكاء الاصطناعي، وفي الوقت ذاته عندما يكتب فإنه لايكتبُ عن منطقة جهل بالذكاء الاصطناعي. هناك معرفة معقولة ومقبولة بالموضوع قدّر هو أنها تؤهله بمشاركة آخرين في كتابة كتاب أو مقالة بحثية بشأن الذكاء الاصطناعي أو ال ChatGPT الذي يرى كثير من الخبراء أنه سيعدُّ نقطة مفصلية في التاريخ البشري مثل انعطافة إختراع المطبعة وشيوع الكتاب المطبوع.
موضوعة (التخصص) شديدة الاهمية وتنطوي على الكثير ممّا يستوجب نقاشاً معمّقاً بشأن موضوعات كثيرة، منها مثلاً: فقرُ مناهجنا الجامعية، وانغلاق التخصصات في جزر منعزلة، وهذه مسألة ستقودُ للكثير من النكوص المعرفي والتقني في المستقبل القريب.
لازال لديّ الكثيرُ ممّا أودّ البوح به بشأن موضوعة التخصص؛ لكني سأشيرُ لحقيقة واحدة فحسب. قلّما شهدنا في جامعاتنا من يُقْبِلُ على دراسته بشغف لأسباب كثيرة. ليس من بديل للشغف. أنت عندما تفتقدُ الشغف ستخسر قدرات عظيمة لن تعوّضها مهما كانت قدراتك على التعلّم كبيرة؛ لذا لاتندهش إذا وجدت من تحسبه خارج نطاق تخصصك المهني يقدمُ درساً مجانياً يمكن أن يفيدك لو درستَهُ بعقل مفتوح بعيد عن عقدة (التخصص) التي تضخمت عندنا لتكون حجاباً يصدّ بعضنا عن رؤية مكامن من الجمال المجاني المتاح لنا.
عندما تناقشُ فكرة مكتوبة ناقش المكتوب وانس أمر الكاتب. الفكرة أهمُّ من تخصصك. تذكّرْ دوماً أن القراءات المعمقة صارت متاحة للجميع وليست وقفاً مخصوصاً لفئة دون أخرى.
نحنُ في عصر ديمقراطية المعرفة، ومن يمتلك رغبة ومطاولة وشغفاً بالتعلم الذي لاينقطع هو من سيفوز في السباق.
إنتظروا وسترون.
جميع التعليقات 1
Saiyd Munzir
كل اسبوع نقرأ مقال رائع ومفيد حجة الاختصاص وسيله وفيتو سهلة لاي شخص حتى لو لم يكن فاهماً ومتعلماً...