اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > دعبلك.. وما ينطوي عليه مسرح اللاتوقع الحركي القصير

دعبلك.. وما ينطوي عليه مسرح اللاتوقع الحركي القصير

نشر في: 5 مارس, 2023: 10:37 م

محمد عطوان

يدعمُ «مسرحُ اللاتوقع الحركي القصير» فكرةَ أن الموضوعات المتداولة في المسرح عبر التاريخ هي ذاتها التي يُعاد النظر فيها في الزمن الحاضر،

فحروب القبائل، وضروب الاستعباد والطبقية، وسياسات الجوع، والخوف، والسجن، والانكار، والاستلاب، والنفي ليست جديدة؛ وتعود، من دون أدنى شك، إلى ذلك التناول القديم الذي رُسمت حدوده واختُبرت مُهيمناته في غير مرة، التجريدية على سبيل المثال أو اللامعقول على يد بيكت، وأداموف، ويونسكو، وأربال…وأن «مسرح اللاتوقع الحركي القصير» بدوره يحاول إعادة النظر فيها، لكنه يحاول دونما أدنى رغبة منه في بلوغ حدٍ أو قرارٍ لإدراكها، ودونما أدنى أدريّة فيها أو ادعاءٍ لحلها.

-١-

في العرض المسرحي (دعبلك) الذي قُدِّم على مسرح كلية الفنون/ جامعة البصرة في شباط 2023، كانت الجُمل الزلِقة الوافرة، والايقاعات الحركية المُتسارعة، والمؤثرات الصوتية المترافقة، تعتصرُ ذهن المُتلقي بداهةً، وتثيرُ لديه الرغبة في استعادة قوالب التفكير الجاهزة بغية الإمساك بشيء من المعنى للموضوع المُثار؛ على سبيل المثال معاينة وحدة الحدث والزمان والمكان، أو محاولة كسرها، والرغبة في استعادة طرق مُمكنة للمعالجة بغية بلوغ ذلك المعنى وفهمه، واقتراح قدر من المقبولية الذوقية للمزاج الصوتي المترافق معه، والذي يتعسرُ احتمال قبول ايقاعه غالباً، والرطانة الحوارية المُبالَغ فيها، والايقاع الحركي الهندسي المُتدفق والمتشظي، كُل ذلك كان يحجب عن المتلقي امكانية التعاطف مع المادة المُثارة، أو إمكانية الحض على ايجاد سُبل تأويلية لحلها.

قُلنا إن الموضوعات المطروحة القديمة والحديثة هي واحدةٌ، ومتكررةٌ دائماً، وتتداخلُ نصوصُها (امتصاصاً وتقليداً وحواراً)، بَيد أن، الاختلاف بينها يتحدد، من خلال الرؤية والتقنية؛ أي من خلال المُعالجة الدرامية والاخراجية المُقتَرَحة؛ فثمة ابتكار ومحاولة ابتكار للمُبتكَر.. لذلك ترى الرؤية الفلسفية المُعاصرة إلى أن المواقف النهائية التي تتقرر بشأن فهم الموضوعات الوجودية غيرُ مُحدَدةٍ، والمآلاتَ التي تكتنفُ مصيرها لا نهائية، ولا أحداً يملك - ضمن هذا المنظور – بُعدَ تَبصّر العواقب، أو الإحاطة بنتائج ما سيؤول إليه مصير الكائن والجماعة معاً.

ولكن في ظل هذا التدوير وإعادة التدوير ثمة فسحة تعايشية للرؤيتين الفلسفيتين القديمة والحديثة يتطلب إدراكها، كذلك ثمة هامش يسوغُ مسألة الارتحال الرؤيوي والاسلوبي من مستوى تقليدي جرى تحصّل المعنى فيه إلى مستوى ما بعد حديث يكاد ينزلق فيه المعنى، بطريقة لا يُمكننا معها الإمساك به، وهو لعبٌ مكين، يثير الحيرة والتشوّش، ليس لدى المُتلقي فحسب، إنما لدى من يقع عليه عبء ابتداع الصياغات النصّية المُقنعة، والمعالجات الأدائية المغايرة لأجل تشريح تلك الموضوعات المتكررة داخل هذا النوع من التجريب المسرحي، وهي مُوضوعات قُلنا إنها ليست جديدة، لكنها جديدة في آن.

-٢-

ربما يقول قائلٌ أن اللامعقول يتلبسُ "اللاتوقع الحركي" في تحقيق مرامه، ونقول في ذلك إن اللامعقول في هذا النوع من العروض المسرحية يمثلُ سلفاً لـ "مسرح اللاتوقع الحركي"، مثلما يمثلُ كُلُ من يحمل مضامين الرؤية الفلسفية الما بعدية تحقيباً مؤسِساً له؛ طالما أن ما يطرحه "اللاتوقع" ليس جديداً ومحدثاً، كما ليس قديماً آبداً، إنما يُعلِلُ حضوره فقط عبر "قالبٍ إخراجي" يختبرُ تشكله في نصوصٍ وتقنياتِ عرضٍ مُفارقة: (هسهسات، هلو – سات، هيت لك، خدملك، زم بلك، ودعبلك)، فيحاولُ الإعلان عن تسجيل لحظة ميلاد شرعية له.. لحظة لها أسبابها الموجِبة، وطرائق فهمها، وتقنيات إدارتها، ومآلاتها السائلة المنفتحة والمُتعددة أيضاً.

من منا يُمكنه في هذا الكون أن يتصوّر طبيعة حوادثنا ومآلاتها تصوّراً كاملاً؟

في زمن العروض المسرحية "متوقعة النهايات": كان "اللاتوقع الحركي"، في كنفها، بوصفه وجوداً وفاعلية متضمنة في الزمان، يُطل برأسه مشاكساً متسائلاً ومتشككاً أحياناً، بالرغم من أنه لم يكن مصاغاً كمفهوم آنذاك؛ كان يُطل مُتنفِساً، وسط الرؤى التجريدية السائدة في حينها، من دون محاولة لجلب الأنظار إليه. فمنذ انسلالاته الخاطفة في عروض مسرحية شتى كان "اللاتوقع الحركي" ولا يزال خياراً موضوعياً استباقياً مُبرَّراً نهوضه، وهاجساً صريحاً، متوثباً، وشجاعاً في تطبيقات ماهر الكتيباني.

وفي لحظة الاختبار التطبيقي لعروض "مسرح اللاتوقع الحركي القصير" الآن، وهو مسرحٌ مغايرٌ لِما سبقه تماماً، ليس غريباً أن تتسللُ الثيمات المسرحية السابقة عينها فيه، وتتظاهر، برؤاها ونتائجها المألوفة، وتحاول أن تتنفس ما أمكنها على خشبته، وتتمطى ناعسة ترقبُ على مهلٍ تقطيعاته النصية والحركية لحظة العرض.. وإذا ما تسنى لها ذلك، تحاول أن تطلَ برأسها من شبابيك فرضياته المُقترحة، عبر جدل درامي لا ينتهي، وصراعٍ تأويلي محموم (طالما أن مشروع الحداثة لم ينته بعد بتعبير هابرماس).. ويحدث ذلك، من منطلق أن القديم ليس قديماً، والجديد ليس جديداً أيضاً. فتُقدّم هذه الثيمات: (اللغة، والهُوية، والأصل، والصوت، والعقل... الخ)، برؤى تجاوزية هذه المرة، وتُفكَك أو يجري اضعاف مُعامِل حضورها، وأحياناً يتم التجاسر على شرعيتها عبر تفعيل عناصر الاختلاف والهدم والتشريح. ومن هذا المُقتَرَب تتهدّد معظم الرؤى العقلانية المُغلقة من أرسطو إلى يومنا هذا: (المبادئ المُتعلقة بموضوعات العقل والمُحاكاة، واحترام قضايا وتصوّرات المنطق، وتمثّل الاخلاق والفضيلة وسواها).

-٣-

التحوّل، برمته، يرتبط بإيقاع الزمن المُقترَح داخل العرض المسرحي ما بعد الحداثي، ومثاله المطروح "مسرح اللاتوقع الحركي القصير"، فمن الصعب في هذا النوع من العروض المسرحية على متابع أن يتوقع ما يمكن أن تكون عليه نتائج الحوادث الطارئة، والمتواترة، والمتسارعة فيه، وسط مظاهر اللا انتظام واللا انسجام، فكيف يقوى من يعوِّل على أدوات معاينة النسق الدرامي القديم على فهم ما يجري أصلاً؟ لاسيما أن التحوِّلات الحادثة من السرعة تُفقِدنا المقدرة على معرفة أسباب القوة فيها، وتعيقنا عن تقديم تفسير واضح لها.. وهو ما يكشف عنه العرض (دعبلك) عندما يشير مجسدوه - بشكل متناثر - إلى ذلك المعنى من دون أدنى رغبة في الادعاء أو اليقينية: "لستُ عارفاً... "لستُ واثقاً من الرؤية"... "لا أعرف أصلاً"، "من المعيب أن تكون عارفاً"... "لم يُجبني ذلك المُهجّن".. وأخيراً العبارة المهيمنة: "اسألْ غيري"! ففي لحظات الجدل والتأزم، والاستنكار، والمساءلة، نرى المهرقعين يضيقون ذرعاً ويتنصلون عما قالوه في مجادلاتهم، فيقولون كلمتهم المتتابعة: "اسأل غيري"، كأن الحقيقة المُثار الجدلُ فيها لا تعود لأحد بعينه، وليست مُلكاً لتصوّرٍ فلسفي ما، فلا يصحُ مساءلة أحدٍ عليها، فهي معطى قابلٌ للاتفاق أو عدمه، فلماذا يُساءل قائلُها؟

كان ادعاء التنبؤ بحدوث الوقائع الاجتماعية والسياسية والفيزيقية مستطاعاً طرحه في العروض المسرحية السابقة، وكان من الطبيعي تأويله أيضاً (من المُهم ذكر إمكانية التأويل)، لكن ما ليس مستطاعاً البت به الآن - وضمن العروض المسرحية الخاصة بالكتيباني - هو تحديد المآلات التي تنتهي إليها تلك الوقائع، والتداعيات التي تخلفها.. بمعنى آخر: إن معرفة الأسباب الداعمة لحدوث واقعة من الوقائع كان مُسلّماً بها سلفاً، لكن الذي يتعسر معرفته هو التكهن بتعريف حدودها واستيعاب مديات تأثيرها، أي الذهاب إلى فرضية عدم جدوى التأويل في هذا الشأن، أو الذهاب إلى مقولة سوزان سونتاغ المعروفة "ضد التأويل".. ومثالٌ على ذلك: الزلازل التي تحدث اليوم (على الرغم من أنها ليست جديدة)، والصعود والهبوط في أسعار سوق العملات، والأزمات الاقتصادية المروّعة، والحروب داخل عالم الغرب نفسه (الحرب في أوكرانيا)، وشيوع الميديا الجماهيرية، والشعبويات السياسية، وحتى مظاهر تشكل الهويات الجماعاتية الفرعية. هذه الوقائع تحاول أن توحي بوجود حيثية وإطار مُحدد منضبط ينتظمها داخل العرض المسرحي المعاصر، لكنها في الواقع أبعد من أن ينتظمها ناظم أو يُدركها وعي بأدنى درجات الادراك في الأقل.

في كُل عرضٍ من عروض الكتيباني الستة، وداخل كُل نصٍ من نصوصه يتحركُ الممثلون باتجاهات هندسية مركّبة، كما يحدثُ التكرار المُتعمّد في صوغ المُشكلات الوجودية بأكثر من صيغة لغوية وأدائية، وكأن الاستعمال المتكرر لها وتقليب وجوهها بإيقاعات مختلفة، يُبسّط من مسألة الفهم ويذللُها، أو يمهد لقبول معنى تقريبي من معانيها.. وكان الموجِب لهذا التكرار – في الواقع - صعوبة العثور على إجابة محددة لتفسير مُشكلة قائمة، وهذا يعني أن المركزي أو "اللوغوس" بما يحمله من "سرديات كبرى" يتقهقرُ في أعمال ماهر الكتيباني؛ فالمركزيُ - عبر تشكيلات السينوغرافيا، والصوت، والضوء، والاجساد المتناسلة، والكُل التكويني - غيرُ قادرٍ على تصدير نفسه حلقةً ذهنيةً فلسفيةً حاملةً للمعنى الكُلي، أو غير مكتفي بقبول الجواب "الميتافيزيقي" المُطمئِن، طالما أن الكُلَ الذين: "هُناك ينظرون إلى هُنا... والهُنا ينظرون إلى هُناك"، والكُلُ يقترحُ ضفةً أخرى، ولكن ربما: "الهُنا ضفةٌ أخرى للهُناك».

المركزيُ في مختبر الكتيباني ينكشفُ، لمّا يوهمُ بابتكاراتٍ وخيالاتٍ غير موثوق فيها غالباً، وإجاباتٍ غير صالحة للاستعمال دائماً، فيحاصره "مسرحُ اللاتوقع الحركي" طَرقَاً وتقويضاً، وتوليداً للأسئلة المتكررة، وبحثاً عن صياغات وجودية غالباً ما تكون ضد التأويل.. لكن، مع ذلك، نلاحظُ "المركزيَ" يتنفسُ في هذه العروض دائماً، فيعاودُ – بمكرٍ - من جديدٍ يصنعُ أو يحفزُ على صنع رؤى أو خيالاتٍ مثيرة ومغرية ونهائية عن الوجود، لكنّها سرعان ما تصطدم بضدها الرابض المُتشكك والمُشتت والاختلافي والتغريبي دائماً، وتستمرُ اللعبةُ الوجوديةُ بالتقويض على هذا النحو النكدي المقاوم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram