طالب عبد العزيز
لكي أصلَ حمدان المعاريف، القرية، التي سأمضي ليلتي في دارةٍ باحدى بساتينها، يتوجب أنْ أتوقف عند جسر مهيجران، المقطوع، والذي تعمل دائرة الطرق والجسورعلى تجديده، بعد أنْ أكملتْ تجديد جسورِ( ابو مغيرة، وحبّابة، ونهر خوز، وحمدان، والسراجي)
ضمن مشروعها القاضي بعقد آصرة ابي الخصيب في مركز مدينة البصرة. من الجسر الموعود أخذني أحدُ الاصدقاء بسيارته، وحين فتحت نافذة السيارة تدفق هواءٌ رطبٌ وبارد هو مما يتنسمه المرء عقيب رشة خفيفة من المطر، ومن النافذة المشرعة رحت أستيعدُ شكل القرية، القرى ومئات الآلاف من الدونمات الزراعية، وشبكة الأنهار والارومات .. مادة غابة النخل.
عندي بغضاءٌ لا أخجل من إشهارها بوجه أسيجة الحديد والاسمنت، التي تسوّر البيوت والبساتين، وبي شغفُ طفلٍ لتلمس أسوار القصب والسعف، ما ظل قائما منها، وما تداكك وانهدم، ولولا فضول الناس وصلفهم لأصلحتُ بيدي الراعشتين كلَّ سورٍ رأيت، ولطالبتهم بهدم اسيجة الاسمنت الكريهة تلك، والعودة بنا الى هندسة الجريد والقصب والسعف والجذوع والافاضة بها منازل وأسواراً ومضافاتٍ، ولجعلتها قائمةً كثيفةً حوالي كل دار وحقل وبستان. لا يتعقب الهياكل تلك إلا من كان الورد الجهنميُّ سبيله ودالته الى حقول القِثَّاء والقرع واللوبياء، ولا يتلمس معي ما أنشده إلا من كانت تعترضُ طريقه الكائناتُ المسالمة، من ضفادع وسلاحف وأبناء عرس وقنافذ، تلك الجيرة الاثيرة، قبيلة الشركاء الذين تقاسمنا معهم خرائط الظلام في غابة الطمانينة التي كانت لنا ذات يوم.
عند أصل النخلة حيثُ تفرّقتْ في الأودية زرقةُ بنطلونك الجيز جلستُ، أبحثٌ في صفحة النهر عن صورتك، وهي تتكور وتتسع في هدأة الماء، والى حيث كانت شجرة الغَرَبِ اخذتني رائحةُ قميصك، ومثل عِجلٍ ليس له خوار، ولم تدنِّس مناخيرَه رائحةُ الابقار الهرمة سرتُ خلفك، أخبُّ التراب،وأدفعُ بالفحولة الى مستقرها وما تطمئن اليه، أهشُّ عن شعرك ذكور النحل واليعاسيب. ومثل عروة حقيبتك وهي تنعقدُ، أردتُ انْ اتسلقَ لأنعقد، تطوحني الريح، أوأتدلى ميتاً، مأخوذاً بما يفيضُ من الرضا بيننا، ومن القبول عندك، أذهبُ الى ينابيعك الأولى، فتنغلق طرقُ الايّاب، عشبٌ كثيرٌ يتسلقني، وماءٌ لا قِبل به يحول بيني وانتفاضة أرنبيك، فأقعي، مثل سمكة صغيرة تطلُّ من حوضٍ الزجاج على النهر. كان السريرُ قيعةَ الليل، وكانت المدفأةُ بشارة النهار، وكانت السلاحفَ تلتئمُ ثانيةً إمّا وجدتْ صفحةَ الماء ساكنةً.
وفي الليل حيث اجتمعتُ مع صديقي اليوسفانييّن(نسبة الى قرية يوسفان) أحمد عبد الرزاق الذي غادرها الى مركز المدينة منذ ثلاثة عقود، وجمال مصطفى الذي غادرها أيضاً منذ أربعة عقود ويزيد الى الدنمرك،شط الحديث بنا تذكراً ونسياناً، أوجاعاً ومقادير.. كنتُ الوحيَد الذي لم يغادر، قلتُ لهما: انا آخر نخلة ستقتلعها جرّافة الفقد، وإن مزّقت انيابُ اليأسِ روحي، وإن سامني العوز، وأسلمتني يدُ الهجران، سأظل أميناً على أسوار الجريد والقصب، أنبتُ أقلام الصبر، في ما أرى من الأرضٍ، وحيث أكون، آيتي ما يحتفظ الناس في بيوتهم من صور الجراديغ والمهيلات، وما يعلقون على حياطينهم من السلال والمناجل والمحاريث، وما يخبئون تحت اسرتهم من الجرار والفخاريات، التي راحت تتشقق تباعاً. الارومات التي لم تكُ نجديةً بما يكفي أنشدُ وأرتجي، والى السلالات التي ظلت تأتي من كلِّ أبلةٍ في التاريخ، انتسب وأحفظهم عن ظهر قلب، أدعوهم لأسوار قلبي، حيث لا احد يتذكرهم اليوم.