اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > القارئ مستنطِقاً المترجم:مُطارحاتٌ فلسفية حول كتاب (الإله والفيزياء الجديدة)

القارئ مستنطِقاً المترجم:مُطارحاتٌ فلسفية حول كتاب (الإله والفيزياء الجديدة)

نشر في: 14 مارس, 2023: 11:05 م

لطفية الدليمي

يحفلُ الفيسبوك وسواه من وسائل التواصل الإجتماعي بالكثير من تمظهرات الرثاثة الفكرية. تلك حقيقة نلمسها كلّ يوم،

وأظنُّ أننا لن نختلف بشأنها؛ لكنّ علينا ان لاندع هذه الرثاثة تعمينا عن مكامن الأصالة المشرقة والإشعاع الفكري المتميز. حتى الرثاثة ينبغي أن نرى فيها بعض نفع لوسائل التواصل الإجتماعي لأنها تتيحُ لبعض المأزومين طرح (مخلفاتهم) الفكرية في أماكن نوقنُ أنها لن تؤذي آخرين بدلاً من أن تتحوّل هذه المأزومية إلى مشاهد عنفية مجسّدة على الأرض.

ليست قليلةً تلك الحالات التي تُطالعنا فيها مثابةٌ فكريةٌ فيسبوكية بصيغة تعليق متميز أو منشور ذي قيمة فكرية تعلنُ عن نفسها لكلّ ذي بصيرة وذائقة وضمير حي، وهذا هو مااختبرته بنفسي عندما نشرتُ على صفحتي مايفيدُ بصدور كتابي المترجم الجديد (الإله والفيزياء الجديدة) للبروفسور – الفيزيائي – الفيلسوف بول ديفيز. كانت معظم التعليقات تدورُ في مدار التبريكات الشخصية التي تنبئ عن المحبة الكامنة في صدور كاتبيها، والبعضُ الآخر من التعليقات أشار إلى بعض التفصيلات التقنية والمفاهيمية الصغيرة، مثل: لماذا (الإله) وليس (الله) في عنوان الكتاب؟ ؛ لكنّ تعليقاً واحداً بين تلك التعليقات الكثيرة إنطوى في متنه على أطروحات فكرية وفلسفية عديدة إستوجبت مني كتابة هذا الموضوع.

قبل أن أشرع في سرد إجاباتي عن تلك الأسئلة أرى من الواجب، وبغية استكمال الفائدة المرتجاة، أن أنقل ماكتبه الصديق الفيسبوكي من تساؤلات في تعليقه المشار إليه أعلاه:

(الكتاب تأليف 1983 وهذا يجعله قديماً في حبكة الافكار ؛ فقد ظهر في فترة لم تكن اللاأدرية اللادينية قد وضحت كما هي اليوم ولم تكن هناك أجهزة النقال ولاالانترنت ولاالانفجار المعلوماتي الحالي. أنا رأيي أنّ موضوع الكتاب لايحقق عنوانه في الفيزياء الجديدة رغم أنّ المحتوى قد يكون شيقاً ؛ فحسبما قرأت عن الكتاب انه يقترح المنهج الصوفي بديلاً عن الدين. تحياتي لك سيدتي وأنا صغير لأبدي رأياً في مجهودك الكبير ؛ ولكني أعود وأقول جاء اليوم الفصل لنقرأ رأيك أنت في فلسفة الوجود بعد هذه المسيرة الطويلة من الاطلاع والانتاج.....)

(إنتهى الاقتباس الفيسبوكي).

تكشف لنا صفحة هذا الصديق عن ولع كبير بأطروحات فكرية واسعة تبدأ بالتاريخ الرافديني القديم ولاتنتهي بتعقيدات اللغة العربية ومسائل الاقتصاد والرأسمالية المعاصرة وحركيات البورصات ومناطق النزاع العالمية. ألم أقلْ لكم أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تحفلُ بالكثير من الجواهر الفكرية المكنونة وسط غطاء كثيف من الرثاثة الفجة؟

أتناولُ الآن الموضوعات التي أثارها الصديق في تعليقه أعلاه، علماً أنّ الكثير من الإجابات يمكنُ أن يجدها القارئ في تقديمي للكتاب و في تعريفي بالكاتب:

1. موضوعة الجدّة في الموضوعات العلمية: الجدّة Novelty مطلوبة في كلّ الكتب المنشورة حديثاً؛ ولكن الحقّ أنّ معظم الكتب المنشورة إن هي إلا تعليقات وهوامش على آراء سابقة. ربما تكمن الجدة في طريقة ووسائل عرض الموضوع؛ لكننا سنكون متعسفين إذا ماتصوّرنا أنّ كل كتاب جديد إنما يمثلُ فتحاً جديداً في ميدانه.

هذا جانبٌ. هناك جانبٌ آخر يتمثلُ في أنّ بعض الكتب يتناولُ موضوعاتٍ تقاومُ البلى الزمني والاندثار المفاهيمي، وهي ذات قيمة فلسفية تتعالى على التجديدات الاحتسابية أو الكشوفات التجريبية. معلومٌ أنّ الكتب التي تمثلُ كتباً منهجية Textbooks أو مراجع تقنية أو معرفية ينبغي تجديد متونها بحسب المتغيرات المستجدة؛ لكنّ النصوص الفلسفية أكثر قدرة على مقاومة مفاعيل الزمن. وكتاب بول ديفيز (الإله والفيزياء الجديدة) ينتمي لفئة المصنّفات الفلسفية التي تعكسُ رأي صاحبها، وليس مهماً أن يكون الكتاب مكتوباً عام 1983 أو قبله أو بعده. هل كان لاكتشاف جسيم (بوزون هيغز)، على سبيل المثال وحده، تأثير على مؤلف الكتاب بحيث يدفعه دفعاً لتغيير صيغة الكتاب لو افترضنا أنه شرع بكتابة الكتاب في عامنا هذا 2022؟ لاأظنّ ذلك. إنّ كتاب ديفيز حالهُ حالُ الحوارات الأفلاطونية أو كتب أساطين الفلسفة التي يمكنُ أن نقرأها اليوم وغداً وبعد ألف سنة لكونها مواقف فلسفية من الكون والوجود البشري وليست مُصنّعات فكرية مرتبطة بكشوفات تقنية محدّدة محكومة بظرفها الزمني.

2. فلسفة المترجم وطرائق عمله وخريطته الفكرية: لعلّ القراء الشغوفين يعرفون أنّ البروفيسور (بول ديفيز) كاتبٌ علمي مجتهد لايكاد يمر عام أو عامان أو ثلاثة بالكثير من غير أن يصدر له كتاب جديد، وهنا سيكون من المشروع أن يتساءل القارئ: لماذا أترجمُ كتاباً للمؤلف نُشِرَ قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة بدلاً من ترجمة كتاب حديث له نشر قبل عام أو عامين أو حتى هذه السنة 2022 (آخر كتب ديفيز المنشورة عنوانه The Ghost in the Machine المنشور عام 2019، وصدر له كتاب بعنوان What›s Eating the Universe?: And Other Cosmic Questions في 22 سبتمبر " أيلول " 2022). أليس الجديد أفضل من القديم؟ كلا، ليس بالضرورة. المترجم ليس آلة عمل عمياء بل هو يبتغي من عمله أن يكون له تأثير مباشرٌ يخدم الحراك الفلسفي والفكري في بيئته، وقد وجدتُ أنّ كتاب (الإله والفيزياء الجديدة) يخدمُ موضوعة فكّ الاشتباك بين المناطق الساخنة من العلم والدين فضلاً عن موضوعات أخرى. أعيدُ القول والتأكيد: ليس الجديد هو الأفضل دوماً حتى لو كان الموضوع المتناول هو الفيزياء (من جانب فلسفة الفيزياء وليست الفيزياء التقنية).

3. ماهي الفيزياء الجديدة؟: هي – ببساطة – الفيزياء التي أعقبت التطورات الثورية في ميكانيك الكم واسقاطات هذه التطورات على ميادين فلسفة المنهج التجريبي وكيفية تفسير بعض النتائج الغريبة لنظرية الكم؛ وإلا لو تصورنا أنّ كل كشف جديد في الفيزياء سيجعلها جديدة بالقياس إلى الفيزياء السابقة فسنكون هنا إزاء فيزياءات جديدة لاعدّ لها.

4. التفجر المعلوماتي والقيمة الفلسفية: أستطيعُ القول بثقة أنّ القيمة الفلسفية لكتاب ما ليس لها علاقة بالثورة المعلوماتية. لو افترضنا انّ ديفيز كتب كتابه هذا في قلب الثورة المعلوماتية فما الذي كان يمكن أن يتغير؟ من المؤكّد كانت أعداد قرائه ستزداد، وكانت مناقشات الكتاب وعروضه ستلقى مقروئية أعلى؛ لكنّ القيمة الفلسفية دالة شخصية تمتازُ بقدر من التفرد الشخصي والاستعصاء على مطاوعة الرأي الشعبي والتناغم الفكري الجمعي.

5. هل بول ديفيز فيزيائي متصوف؟: هذه وهمٌ كبير. نميلُ كثيراً لتصنيف الناس (والعلماء بالتخصيص) في فئات شتى وبخاصة فيما يختصُّ بمشاربهم الدينية والسياسية، وربما كانت مناهضة ديفيز لمنهج (ريتشارد دوكنز) الذي يقربُ من الأصولية العلموية الراديكالية Radical Scienticism هي ماجعل البعض يخلعون عليه صفة (الفيزيائي الصوفي). كتب ديفيز في غير موضع موضحاً أنه يتقاطعُ مع التفسيرات الروحانية ومحاولة بعض الفيزيائيين تحقيق نمطٍ من التداخل المفاهيمي بين الفيزياء وبعض الفلسفات (الشرقية تحديداً مثل الطاوية أو البوذية) ؛ لكن في الوقت ذاته نراه يكتب التالي:

"... فَمِنْ بين العلماء غير المتدينين بالمعنى التقليدي للكلمة، نجد كثيرين يعترفون بشعور غامض بوجود "شيء ما" خلف سطح حقيقة الحياة اليومية، معنىَ ما خلف هذا الوجود ؛ فثمة إحساس طاغ لدى أوساط أكثر العلماء راديكالية يجوز لنا أن نسميه: تبجيل الطبيعة، افتتانٌ واحترامٌ لجمالها وبُعْد غورها وحتى حماقتها، وهذا الشعور مماثل للرهبة والخشوع الديني..... "

ثمة بالتأكيد نكهة ميتافيزيقية في هذا النص؛ لكنّ هذا لايعني أن ديفيز صار داعية دينياً أو ميالاً لخلط العلم بالدين.

يذكرني هذا الموقف بموقف مماثل سبق للفيزيائي الألماني ماكس بورن Max Born أن أورده في أحد كتبه. يقول بورن أنه عندما كتب في عشرينيات القرن الماضي مناقضاً تفسير كوبنهاغن الاحتمالي لنظرية الكم الجديدة جاءه أحد القسس مثنياً على موقفه الداعم للايمان المسيحي القائم على الحتمية المطلقة (لأنّ الرب لايمكن أن ينسى إدارة كل شيء في هذا الكون) !!! هذا مثالٌ للفهم الشعبوي المناقض لروح العلم وتطلعاته.

6. هل العلماء المعاصرون لاأدريون دينيون؟ لاأظنُّ ذلك. هم يتوزّعون بين فئتين: فئة كبرى تعلنُ مقاطعتها الصارمة لكلّ التمظهرات الدينية، وهم يأنسون صفة (الإنسانيون الجدد The New Humanists) لتكون خصيصة مميزة لهم؛ أما الفئة الثانية فهي أولئك المقتنعون بإله سبينوزا (طبقاً لتوصيف آينشتاين) بدلاً من الإله الذي تعرضه لنا الكتب الموصوفة بالمقدّسة لدى مؤمنيها. إله سبينوزا هو كنايةٌ عن صفات (الجمال، المعادلات الأنيقة، البحث عن الكمال، التناغم الرياضياتي،،،، بدلاً من الصفات الدينية أو اللاهوتية المبثوثة في الكتب المقدسة. ويبدو لي أنّ ديفيز ينتمي لسلالة آينشتاين الميالة لإله سبينوزا.

* * * * *

أما مايخصُّ رأيي في فلسفة الوجود فتلك مهمة لاأحسبني راغبة أو قادرة على إختزالها في بضع عبارات، وقد نشرتُ على مدى سنوات وعقود متتابعة، تأليفاً وترجمة، مقالات كثيرة في هذا الميدان، لعلّ أحدثها هو المادة المعنونة (لماذا لايكون الدين نسقاً ثقافياً؟) التي يمكن للقارئ الشغوف قراءتها على صفحتي الفيسبوكية، حيث جاء فيها المقطع المهم التالي:

(أخدوعة تعايش العلم مع الدين:معروفةٌ تلك القرون الصراعية التي شهدت إحتراباً فكرياً عظيماً بين العلم في بواكيره الأولى والسلطات الدينية الممثّلة في المؤسسة الكنسية وأنساقها اللاهوتية الراسخة، وقد خسر الكثير من العلماء حياتهم - أو حرّيتهم الفكرية في أقلّ التقديرات -، وتطلّب الأمر قروناً من النضال الفكري حتى بلغنا حالة حصل فيها - في الغرب بخاصة - نوع من الإعتراف بفصل الأدوار بين الأنساق اللاهوتية والأنساق العلمية، وتطوّر الأمر حتى بلغنا مرحلة الدولة المدنية المحكومة بقوانين إنسانيّة تُعلي الشأن البشريّ بعيداً عن التصوّرات الأخروية.

ليس ثمّة من إمكانيّة للتعايش القسريّ إذن بين العلم واللاهوت، وهنا يمكن الإشارة إلى قضية شديدة الأهمية في هذا الجانب وهي إمكانية بقاء كلّ من العلم واللاهوت ماكثاً في فضائه الخاص وضمن هياكله المؤسساتية من غير تأثير مباشر أو غير مباشر من جانب اللاهوت على المؤسّسة العلمية أو بالعكس. يمكن التعايش بشرط إنتفاء صفة القسرية في هذا التعايش على الطريقة الملتوية التي يُشيعُ بها بعض الأساتذة ذوي التوجهات الدينية الأصولية تأويلات في غاية الرثاثة لبعض النصوص القرآنية بغية جعلها تنساق قسراً للرؤى العلمية الراهنة، والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، وقد ساهمت في إشاعة نمط من الأصولية الثقافية المعادية لأي إنفتاح ثقافي.)

* * * * *

كانت سنوات حياتي – وبخاصة في العقد الأخير – رحلة فكرية أردتُ منها تكريس مفاهيم التنوير والعقلنة ومناهضة الأصوليات الدينية والسياسية السائدة في بيئتنا العراقية والعربية، وليست مؤلفاتي وترجماتي سوى تأكيد لهذه الرحلة، وإذا أصبتُ شيئاً قليلاً من النجاح فسيكون هذا مبعث غبطة عميقة لي متى ماعرفنا حجم التغوّل الفكري والمادي للأصوليات الحاكمة على الأرض.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram