اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: مفكّرون !!

قناديل: مفكّرون !!

نشر في: 18 مارس, 2023: 11:25 م

 لطفية الدليمي

كلّ انسانٍ مفكّرٌ بالضرورة. هذا بعضُ ماتنبؤنا به العبارة الديكارتية الشائعة ( أو الكوغيتو الديكارتي كما تسمّى في الادبيات الفلسفية ). التفكير مقترنٌ شرطياً بالوجود البشري.

لو تصوّرنا التفكير صنبور ماء فأنت لن تستطيع غلقه بمحض إرادتك. كلّ البشر يفكّرون طالما هم أحياء ولايعانون إصابات دماغية عضوية. الفيلسوف يفكر، وأستاذ الجامعة يفكّر، وبائع الخبز يفكّر، والفلاح يفكّر، والسمكري يفكّر. هل هؤلاء يفكّرون لأنهم يعملون وأصحاب مهن؟ لا. المتعبّد المنقطع في صومعته يفكّر، والطفل الذي يراوغ للحصول على الحلوى يفكر. ماذا بعدُ؟ حتى المحبُّ الذي أضناه العشق يفكر ولو كان خالي البال كما يقول الجواهري :

خُلْواً من الهم إلا همّ خافقة بين الجوانح أعنيها وتعنيني

تبدو العبارة الديكارتية صالحة لكلّ زمان ومكان توجد فيه رائحة وجود بشري. جرّبْ أن تمنع نفسك من التفكير. هل يمكن هذا؟ كلا. قد يراد من عبارة ( التوقف عن التفكير ) - في الشائع من تعبيراتنا - التخفف من الهموم والانشغالات المفضية إلى الكدر؛ لكنّ هذا لايعني أنك تستطيع كبح دماغك عن التفكير. دعونا لاننسى أنّ التفكير ليس مقترناً بالهمّ إقتراناً شرطياً: أفكارك قد تكون سبباً في إكتئابك مثلما يمكن أن تكون رافعة لروحك وداعمة لمقدرتك على العمل والانجاز. أفكارك هي أنت.

كلنا مفكّرون. لماذا؟ لأنّ تلك واحدة من الشروط اللازمة لإدامة الوجود البشري في شكليه البيولوجي والمعرفي. هذا ماقادت إليه سلسلة تطوّرية طويلة. الدماغ البشري يعمل من أول لحظة الوجود وحتى آخر مراحل الانطفاء؛ ولأجل هذا لايعدّ الشخص ميتا إلا إذا تحققت شروط ( الموت الدماغي ). الطفل سيعمل على ترسيخ وجوده البيولوجي بكلّ الوسائل، ثمّ كلما تقدم الانسان في العمر تبدأ الانشغالات المعرفية تزيد مساحة وتأثيراً في حياة الانسان. القانون الاساس في ذلك هو أنّ التفكير يكون أشبه بعملية ميكانيكية ( مثل عملية التخاطب باللغة الأم قبل الذهاب إلى المدرسة )، ثمّ كلما تقدّم الانسان في العمر تزايدت معه إمكانية إقتران التفكير الميكانيكي بالتفكير الخلاق ( أو الابداعي). علام يعتمد هذا الامر؟ يعتمد بالطبع على طبيعة الشخص وبصماته العقلية والنفسية ومستوى خبراته. ثمة ملمحٌ آخر لهذا النسق التطوّري: العقل الخلاق ( الابداعي ) ينفرد بخصيصة قدرته على نقل مديات تفكيره من الملموس المرئي إلى التخوم التجريدية، وهذه واحدة من أثمن الخصائص البشرية، وهي القوة الدافعة لكلّ محرّكات تقدمنا العلمي والتقني.

مادفعني لهذه المقدمة ذات الطابع الفلسفي هو ظهور بعض الشخصيات في اللقاءات التلفازية مع عبارة تعريف بها ( مفكّر !! ).أحياناً يقال ( كاتب ومفكّر ). إذا كنت كاتباً حقيقياً فماحاجتك إلى لقب ( مفكّر )؟ أهي للوجاهة؟ أتراك ستكون أعلى مرتبة لو قيل عنك ( مفكّر )؟ صارت القاعدة كما يبدو في اللقاءات التلفازية : إذا لم تكن دكتوراً ( بمعنى حامل شهادة دكتوراه ) أو ذا توصيف مهني محدّد فإنّ توصيف ( مفكّر ) سيكون هو الحل الاسهل والأسلم.

ربما سيقال أنّ توصيف ( مفكّر ) يراد منه التكريم فحسب. لو تجاوزنا النظرة الطبقية في هذه الموضوعة ( أي أنك عندما تصف نفسك مفكّراً فأنت تفترض أنّ الآخرين لايفكّرون، أو بصورة أدق لايفكّرون مثلك ) فثمة الكثير ممّا يمكن أن يقال بشأنك. هل أنّ ولعك بالتراثيات - مثلاً - وحفظ عشرة آلاف بيت للجواهري يجعل منك مفكراً بالضرورة؟ أنت لاتتحدّث لغة أجنبية واحدة يارجل؛ فكيف تبيح لنفسك أن تكون ( مفكّراً )؟

هل سمعتم يوماً مَنْ وَصَفَ عمالقة التنوير الاوربي بالمفكّرين؟ هل سمعتم من وصف أكابر الفكر الفلسفي بالمفكرين؟ أنا سأقبلُ عن طواعية كاملة وصف فيلسوف إستثنائي ( مثل لايبنز ) بالمفكّر. دققوا مثلاً: كم لغة تحدّث بها؟ وماهي المباحث المعرفية التي عمل فيها؟ يبدو الرجل أسطورة بشرية ؛ مع ذلك لم يصفه أحد بالمفكّر. هو فيلسوف فحسب. الامر ذاته يسري على ليوناردو دافنشي الذي غالباً مايذكر بوصف الفنان رغم أنّ إهتماماته كانت عبقرية الابعاد والامتدادات.

سأحدّثكم عن مثال معاصر. إنه فاكلاف سمل Vaclav Smil، أستاذ الجغرافية البشرية في إحدى الجامعات الكندية. هذا الرجل ماكنة بشرية. يبدو وكأنه يفكر في مواد كتبه حتى وهو يستحم. دأب سمِل على نشر كتاب كلّ سنتين أو ثلاث، وأيّ الكتب هذه !!! إنها بانوراما للتطور البشري في منظورات مختلفة. إستضاف بل جيتس مرة سمل وظهر اللقاء في موقع غيتس على الشبكة العلمية :جلسة بسيطة على مائدة صغيرة. غيتس يخاطب سمل: أهلاً صديقي فاكلاف؛ يجيبه سمل : أهلاً بك بل. ثم مضيا يتحاوران بشغف.

كلّ من خاض تجربة الدراسات العليا في الجامعات الغربية يعرفُ أنّ الاستاذ المشرف على الطالب يعمل منذ البدء على كسر الحواجز – من أي نوع كانت – بينهما. يدعوه لمنزله ليتشارك الطعام ويتعرّف على أفراد عائلته؛ بل ثمة تقليد سائد أن لاتخاطب الاستاذ بأي لقب. خاطبه باسمه المجرّد فقط. نظرة الغربيين ترى أنّ الدراسات العليا منطقة إستكشاف جديدة للطالب والمشرف معا، وأنّ عليهما أن يخوضاها بنديّة وروح منفتحة بعيداً عن أي جمود فكري أو وظيفي أو تراتبي. يريد المشرف أن يقول لطالبه : دعنا ننطلق في هذه الرحلة معاً يداً بيد، ولنستمتع بما يمكن أن نفعله ومايمكن أن ينتج من عملنا. ماذا كانت النتيجة؟ تحوّلت بحوث الدراسات العليا إلى أوراق بحثية تنشر في كبريات المجلات العالمية، ويتعمّد المشرف كتابة إسمه بعد إسم الطالب.

يبدو بعض (مفكّرينا ) المعاصرين في تيه من أمرهم. هم ينتشون باللقب لا بالعمل. إنّ عهداً ليس بالقصير قضيته في المتابعة والتدقيق قادني إلى قناعة سأقدّمها لكم: كلّ من إرتضى أن يوصف بالمفكّر ثمّة خلل جوهري أو نقص فادح في تكوينه المعرفي أو أصوله الثقافية. هو يداري نقصاً أو مثلبة يسعى لإخفائها تحت جلباب ( المفكّر ). إذا كنتم مفكرين ؛ فما عساه يمكن أن يكون فاكلاف سمل ونظراؤه، وهم كثر؟

المشتغل الحقيقي في أي حقل معرفي يعمل ويستزيد إنتاجاً سنة بعد أخرى لأنه يحب عمله ويشغف به إلى حدود بعيدة. لن تعنيه صفات أو ألقاب مجانية. هذه الصفات والالقاب تركها لمن يلهثون لنيل بركات ( المفكّر ) الموهوم حتى لو لم يكن أكثر من عبارة بائسة في فضائية تلفازية فقيرة المحتوى أو صحيفة تعتاش على مخلفات الافكار العتيقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram