حيدر المحسن
سماء ربيعيّة صافية، وفي فضائها المشعّ يرتفع صقران يرسمان دوائرَ واسعةً. وفجأة أخذت السماء تختلج، لأن سبعةُ أبواقٍ من قرونِ أكباشٍ سود، أعلنت شروق الشّمس البهيّة.
أنهيتُ تَجوالي الصّباحي على الشّاطئ، وقرأت حوالي ساعة، وشيئا فشيئا التمّ السّحاب، والسماء صارت خفيضة، دعساتُ ضوءٍ تراءت بين السحاب في الأعالي، وعبّادُ الشمسِ كان يحدّقُ من مكانه في حديقة الفندق، وأزهار الترنجان البيضاء. البحر هائج. البحرُ صاخبٌ، للبحر صياحٌ كأنما لونه أزرقُ، لا يعود من يصغي إليه مثلما كان. لا يكفي تأملُ البحرِ من الشرفة. بعد الفطور قلنا نخرجُ إلى الشاطئ، وكنا نسمع الموجَ يهسهس برغوته البيضاء، ونرتشفُ الرّيحَ التي تنضحُ بالملحِ، ونشربُ العصائرَ، والغمام كان ينشر في الجوّ عطرَ الياسمين...
وظهر الزنوج بغتةً، وامتلأتْ جرارُ طبولِهم شيئاً فشيئاً باللّحن الأسوَدِ القويّ والمفعم بالحرارة والحياة، وفاضتْ، وكانت الموسيقى تسيلُ منها. لكننا نسينا أمرَ الغيمِ، والسماءُ التي توشكُ أن تمطرَ، وامتلكتنا وجوه الزنوج التي كان يزينها خطٌّ أسودُ عريضٌ يصل بين الحواجب، وكانوا يربطون شعورهم بدزينتين أو ثلاث من الضّفائر الملتفة.
أخذ البحرُ يغني مع الزنوج، مأخوذاً، منتشياً، وكان عِرقٌ ضئيلٌ يهتزّ بين صدغي وعيني. أنشد الزنوجُ أغانِيَ كثيرةً عن الحب، وكانوا يرقصونَ بلهفةٍ، ووجوههم السود ترتعد، ثم جاؤوا بأقنعة ذهبيّة، فاختلط الحلُمُ بالواقع، ومسّنا عندها طربٌ جماعيّ حين علا صوتُ البوق المنبور، وغنى أحدهم، وكانت له أذن واحدة، وعينان بنّيتان هادئتان، ويزيّنُ جيدَه بقلادة من الزجاج الأحمر. غنى:
"سمراء، زنجية/ لا أريد غير سمرتك اللاّمعة/ لا أريدُ غيرَ يديكِ السّوداوين/ وقُبلتَكِ التي تلوّنتْ هي الأخرى/ والرّعشةُ في أعطافِكِ كانت سوداءَ/ وكنتِ تصرخينَ بي: أهلاً/ أهلاً بالحياة!"
لحسن الطالع لم تمطر، ثم جاء الإلهامُ زنجيّا آخر، على صدغه آثارُ جرحٍ قديمٍ، وله شاربٌ نحيلٌ لا يكادُ يُرى. عزفَ على النّاي لحناً بسيطاً، وكان يهزّ عنقه، ويبتسم بشكل ناعمٍ وجميلٍ. من ينسى عينيه الوديعتين، من لا يتذكر حتى الممات تلك الأنغام التي كانت تشعشع؟! حتى البحر كان يصغي، وقد سكّنَ موجَهُ، ثم كسا وجه العازف ظلُّ ألمٍ، وكانت عيناه تطرفان، وفي اللحظة التي سالت فيها دموعُه، سكت النّاي، وضجّت جميع آلات الموسيقى، وراحت تصرخُ، كما لو كان هناك حريق، وكما لو أن الأرضَ كانت تحترق، والبحر كان يغلي، هائجاً.
كان النّهار يتغيّر شيئا فشيئا، وتختلط فيه ظلالنا مع بعضها، ومع ظلال الحجر والشّجر، ثم قدّمَ زنجيّ ثالث رقصةَ المطارَدِ بالنّحل، وكان ثمّة مزمار يعلو، ويخفتُ، والرّجلُ يرقص ويدور ويهشّ، كأنّما أسرابُ النّحلِ على وجهه وجسده، ثم تهاوى أخيرًا، والأمر كلّه كان تمثيلا ورقصا ولعبا. سكت المزمارُ. وقام الزّنجيّ: يا للعجب! وجهُه ممتلئٌ باللّدغات، وعيناه حمراوان.
قرعوا جرساً، وجاؤوا بالديكة السود الثلاثة، وكانت تطيرُ وتصيح وتدور على نفسها ثم سكنتْ. يا لترانيم النّايِ الملتهبِ! كان الديّاكُ يحيطُ عنقه بشالٍ أبيضَ غامقٍ، ويحرّك يديه والذّراعين مثل قائد في أوركسترا، يعطي تعاليمَ إلى الديكة الثلاثة: واحد. اثنان. ثلاثة. وهزّت الديوك رؤوسها ثلاث مراتٍ، وبعد وقفةٍ واصلت الهزّ ثلاث مرات أخرى، ثم تهارشتْ، وانتصرت جميعاً، وانهزمت جميعاً، ونامت. غنّت إحدى النساء في الفرقة قصيدة (السحر الأسود)، للشاعرة الامريكيّة الزنجيّة سونيا سانشيز:
"السّحرُ
يا رجُلي
هو أن تحوّل
جسدي إلى
ألفِ ابتسامةٍ"
في النهاية، كل شيء يصير على ما يرام عندما ينتهي على ما يرام، وعندما بدأ الظُّهر ينصبُ خيمتَهُ من حولهم، ذهب الزّنوجُ، وكانوا حائرين إلى أين يذهبون، وقد أمطرتِ السّماءُ، لكنهم غادروا الشاطئ أخيراً دون أن يتركوا وراءهم قلوباً كسيرة.