TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > ما بين شباط وتشرين.. لماذا لا يتوحد المنتفضون؟

ما بين شباط وتشرين.. لماذا لا يتوحد المنتفضون؟

نشر في: 25 مارس, 2023: 08:58 م

سلام عادل الكيم

استنهضت الاحتجاجات منذ شباط ٢٠١١ فئات شعبية كثيرة، غالبيتها العظمى من الشباب، دافعة بهم من هامش الأحداث إلى مركزها. إلا ان هذه الفئات لا تزال تراوح في مرحلة الغضب، ويتعكز الشباب على أمجاد العفوية. بينما يسعى النظام لترسيخ كراهية الناس بالسياسة والنفور منها،

في محاولة لإبعادهم عن المشاركة في صنع القرار والتأثير به، بعزلهم عن المشاركة السياسية، مع ازدياد استبداد النخب الحاكمة، انحيازها لمصالحها واستحواذها على مقدرات الدولة. مكتفية بإصلاحات محدودة، واستجابة بسيطة (تكاد تكون غير ملحوظة) لمطالب المحتجين.

ليقع هدف التغير وانهاء نظام المحاصصة والفساد في فخ الجدل بين العفوية والتنظيم، فينقسم المحتجون، وتتحول العفوية إلى شعبوية تقاطع الممارسة الديمقراطية. لتأتي الاحتجاجات بفعل عكسي يصعّد المنافسة بين أحزاب المحاصصة للفوز بغنائم أكثر مستغلة انتخابات مبكرة طالب بها المحتجون (٢٠١۹)، فالانتخابات في النظام تعزز النظام، تعيد انتاج المحاصصة وتهمش مطالب المحتجين. وفي خضم عقد الصفقات والتحالفات التقاسمية، تتراجع السلطات عن أداء دورها في تلبية مطالبهم وتفقد الدولة كفاءتها التنفيذية والمؤسساتية أكثر فأكثر، تاركة مستويات الفقر في تزايد، والخدمات الاجتماعية في تراجع، والتهديد بتجدد العنف قائم.

أقوياء كأفراد، ضعفاء كمجموعة

أسس مجموعة من الشباب التقدمي المؤمن بدولة المواطنة لثقافة الاحتجاج، حينما انطلقوا في مواجهة متجددة (٢٠١١) ضد السياسات التي أوصلت البلد إلى التفكك، معلنة إطلاق مسار التعافي. وقد ظهر امتداد هذا المسار جلياً في احتجاجات تشرين (٢٠١٩) حينما ظهر استعداد الناس للتعبير بدخولهم الفعل الاجتماعي ومشاركتهم في مسرح السياسة الوطنية، وبروز ثقافة واسعة معادية للطائفية. إلا أن انتاج قاعدة مواطنيه غير طائفية يحتاج لنواة منظمة، تقدم الاحتجاج كحالة وطنية جديدة. تؤمن بأن المواطنة العراقية لا تنفي أن تكون هنالك تعددية تسمح بتمثيل جميع الايديولوجيات، الأفكار والتطلعات، تعددية أساسها المواطنة المشتركة. مهمتها تحويل الطاقة الكامنة (الناس) إلى طاقة ميكانيكية، فتنشأ قوة اجتماعية واسعة تناهض نظام المحاصصة، تتمسك بالمواطنة العابرة للطوائف، و تصر على ان العلاقة مع الدولة لا تمرعبر الطوائف، وبالتالي تتمتع بثقة قواعدها الشعبية، فيتسنى لها العمل على تنظيم وتأطير الأفراد وبلورتهم في مجموعات تحدث تفاعلاً مشتركاً ضمن كتلة متجانسة تمتاز بالترابط، بإستطاعتها طرح ما تريده بالضبط كي لا تتزور إرادتها أو يتم الالتفاف عليها.

تقديم التنظيم على الحماسة الثورية

نجح حملة راية الاحتجاج في تحقيق الزخم الوطني، إلا انهم لم يفلحوا في تقديم طليعة سياسية تعبر عن أهدافهم وطموحاتهم. فالتحرك (١) دون خلفية سياسية، (٢) أمية الخطاب، و(٣) الاستنكاف عن الفعل السياسي،(٤) الطابع الرومنطيقي الذي غلب على مزاج المحتجين،(٥) الانصراف إلى اختيار ايقونة للاحتجاج والدفاع المستميت عنها والفشل في اختيار قادة للاحتجاج، (٦) جودة المعلومة وهامشية الآراء التي تتشكل وتنتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي التي باتت وسيلة المحتجين للدعوة للاحتجاج، حال دون ترجمته -إلى هدف واضح ومشاركة مؤثرة باستخلاص برنامج سياسي يشمل كل المظالم، فبقي الاحتجاج غوغائياً، خاملاً، لا استمرارية فيه وانما يندلع في موجات متباينة الدوافع، غير قابلة لتنبؤ نتائجها، قاسمها المشترك غضب يتغير لونه وشكله باستمرار. فقد شهدنا مجموعات وأفراد بخلفيات متنوعة ودوافع مختلفة. منهم من رفع شعار التظاهر السلمي وقام بتنظيف الشوارع والرسم على الجدران و إصلاح الأرصفة. ومنهم من عمد إلى التخريب والتجاوز على ممتلكات الدولة ومؤسساتها، وآخرون لجأوا إلى المواجهات مع عناصرالأمن والشرطة. منهم من خرج احتجاجاً على الظلم الاجتماعي وآخر على البطالة وغيرهم على سوء الخدمات. وكان من بينهم من يرفض النظام قطعياً وآخرون يطالبون بإصلاحه.

وهكذا ظل المحتجون متفقين على ما هم ضده، وليس على ما هم يحتجون من أجله. بينما فازت الأحزاب التقليدية بالانتخابات التي تحتاج لقوى سياسية منتظمة، تمتلك عناصر قيادية واعية تدرك قواعد العمل السياسي، والعمل الانتخابي التي تختلف بدورها عن قواعد العمل الثوري، التي تلزم الانضباط وتمتلك القدرة على تنظيم قاعدتها الشعبية بغض النظر عن طريقتها بالتنظيم، فما التضخم الوظيفي إلا نتيجة لرغبة كل حزب من احزاب المحاصصة في استثمار الوزارات ليقوي نفسه بقواعده الاجتماعية عبر التوظيف، والسماح بالفساد والزبائنية.

مرحبا ايها العالم هناك شعب يقوم بثورة

بالرغم من ان الاحتجاجات العراقية هي الاكثر سلمية من بين الاحتجاجات التي اندلعت في المنطقة إلا ان الشباب المحتج لم يحسن تصدير العنف الذي واجهته احتجاجاتهم (٢٠١١) من ترهيب وتغييب وقتل إلى العالم بطريقة تلفت الانتباه الى مطالبهم. اما موجة الاحتجاجات الأخيرة (٢٠١۹) فقد غيرت الجدل القائم بشأن الحال العراقية. فبات من البيّن دعم الرأي العام الدولي للمضي في مشروع اقامة دولة ديمقراطية في العراق، رفضه للعنف ضمن سياق التقدم التدريجي دولياً، و بالرغم من وجود اختلال في توازن القوى وعدم الاستعداد لقبول الآخر محلياً، ولكن يبقى العراقيون هم أصحاب القضية والمعنيين الوحيدين في منح هذا المشروع المحتوى الذي يتناسب وطموحهم بحياة حرة كريمة، بعد ان أذكت الاحتجاجات الوعي بالحرمان عبر سنوات من اللاعدالة واللامحاسبة، وعلى هذا الوعي ان يتبلور إلى أسلحة مضادة للبطش والتيأس، المحسوبية والفساد. وان يشكل الدافع الأساسي للاستمرار بالضغط في مواجهة النخب السياسية المقاومة للتغيير، المنحازة لمصالحها في الحفاظ والإبقاء على النظام- حتى يبلغ مستويات القدرة على التأثير وتوجيه عملية صنع القرارالعراقي، فـيصبو إلى تأسيس حلقة وصل تجمع المجموعات الرافضة للنظام، حلقة وصل بين من يخوض الانتخابات ومن لا يخوضها، داخل اروقة البرلمان وخارجها، على النطاق الوطني المحلي والعالمي. هدفها استمرار النضال ضد النظام، تحدي الوضع الراهن حتى إحداث التغييرالهادف لحياة أفضل للعراقيين. ويفضي إلى استعادة دور المجتمع -الإرادة الشعبية الحرة- كمصدر وحيد للسلطة.

الواقع هو ما ننتجه نحن كمجموعات

ان مشروع بناء الدولة الديمقراطية في العراق هو مشروع معقد يزيده السياق السياسي الإقليمي والدولي تعقيداً، أي انه عملية تدريجية طويلة الأمد، تُغيّر السياسة ببطء وبشكل مؤلم احياناً في ظل هذه السياقات الجيوسياسية، وهو عملاً لا يزال قيد الانجاز، يتطلب تظافر الجهود والتنسيق بين الشركاء في البناء، التحكم بالوجهة الدولية العامة من خلال توظيفها باستخدام كل ما هو متاح من آليات وقنوات للتعاون لإحداث مزيج من التغيير قصيرالأمد بالعمل على تحقيق أهداف الاحتجاجات المطلبية كتوفير الخدمات، والتغيير طويل الأمد بالتخلي عن الهويات الفرعية. لحين وضع هذا المشروع على سكة مساره الصحيح وذلك بـ (١) ترسيخ قيم المواطنة التي لم تنجح أي حكومة منذ سايكس بيكو في تغليبها. (٢) تكريس قيم الديمقراطية في الحياة العامة - بدلاً من المطالبة بها، (٢) تفعيل الدور الرقابي لعملية البناء والتحول الديمقراطي من خلال التأثير في الاحزاب والنقابات، (٣) تعزيز قدرة هياكل المجتمع المدني على توجيه عملية صنع القرار، (٤) العمل على ان يشكل المجتمع خطابه النضالي، المطلبي والسياسي المرتبط بهذا المشروع، بحيث تكون لديه القدرة على الاستمرار بالضغط من أجل تحديد أولويات الأجندة المحلية، (٥) تهيئة الرأي العام والتأثير بسلطة الجماهير، (٦) دفع المجتمع الدولي ليكون دعمه مشروطاً بمدى تقدم مشروع بناء الدولة الديمقراطية.

إعادة هندسة المجتمع و بناء الحراك الاحتجاجي

ترسخت في ذاكرة العراقيين حوادث العنف الذي مارسته الدولة ضدهم خلال حقب متوالية، حتى تصلبت شيفرتهم في التعامل مع البدائل والمتغيرات العراقية، شفرة رموزها: العنف، الانقلابات والبدء من الصفر في كل مرة بعد تسقيط وتخريب كل ما تم تحقيقه سابقاً. وفي ظل هذا الواقع المتجذر لابد للمحتجين الشباب من تكفيك هذه الشفرة ومتلازمة العنف السائدة في مجتمعنا العراقي والتي لا تتوافق (تتناسق) مع مشروع بناء الدولة الديمقراطية في العراق، يتطلب ذلك العمل بمنهجية على (١) إعادة تشكيل الوجدان الوطني الرافض للعنف والعنف المضاد،(٢) تمكين الجماهير من معاكسة المخططات المحاصاصاتية بزيادة الوعي والادراك بنظام الحقوق والمسؤوليات في دولة المواطنة الديمقراطية، (٣) دراسة القضايا المفصلية وتقديم الحلول التي تمثل وجهة المحتجين، وبالتالي (٤) تعزيز الثقة في قدرة الاستمرار بالنضال السلمي على تفكيك متلازمة العنف. أي انه وإلى جانب حملات التحشيد، اعلان التضامن،كشف الانتهاكات، المظاهرات والاعتصامات، لا بد من عمل دعائي سياسي تثقيفي توعوي يتوجه الى القواعد الاجتماعية، هادفاً الى تحقيق الجهوزية للتظاهروإعلان الرفض لأي ممارسة لا تخدم مشروع بناء الدولة الديمقراطية في العراق.

المهمة تأسيسية

إن النضال من أجل عملية سياسة أكثر تعبيراً عن إرادة العراقيين يتطلب طريق آخر لممارسة السياسة والاحتجاج، من خلال التواصل مع المؤسسات الدولية لغرض إيصال صوت الحركة الاحتجاجية وبالتالي الحصول على الاسناد من أجل دعم قضيتها. النهوض محلياً بـ (١) تجاوز عناصر ضعف موجات الاحتجاجات السابقة، (٢) عدم مجاملة الأخطاء أو التخادم بين قوى التغيير سواء تلك التي اسست للاحتجاجات أو التي افرزتها- شكلتها الاحتجاجات، وترشيد الخلافات فيما بينها بالترفع عن المصالح الضيقة (٣) القدوة في تسخير عناصر التغيير التدريجي الايجابي بتغييرالسلم القيمي والممارسات السياسية.(٤) دعم النواب الذين تمثلت الاحتجاجات بعدد منهم داخل أروقة البرلمان في الانتخابات الأخيرة، ليكونوا نواة معارضة برلمانية تقف في وجه المحاصصة التواطئية، وتتمتع بثقة الحركة الاحتجاجية فتعطيها الإشارة من داخل البرلمان بتحريك الشارع بالضد من اي ممارسة تهدف الى التوافق على المصالح وتقسيم المغانم، أو لا تصب في صالح مشروع بناء الدولة الديمقراطية، (٥) العمل على تشكيل طبقة سياسية لا زعامات مجموعات كما حال زعامات الطوائف، (٦) تعزيزالوعي بالنظام السياسي البرلماني القائم على التعددية الحزبية والصراع الفكري والتنافس من خلال البرامج الانتخابية لتلك الاحزاب في توفير الخدمات ومحاربة الفساد وتوفير البدائل لحياة كريمة للمستقبل البعيد، (٧) اشراك الجيل الجديد الذي بات يشكل قرابة الأربعين بالمائة من عدد سكان البلد بحسب آخر احصائيات وزارة التخطيط العراقية للعام ٢٠٢٣، ليكون جزء من الحديث الجاري في الاقتصاد، السياسة، والشأن العام، ليساهم برسم الأهداف النضالية وتحديث أدواتها في سبيل مشاركة سياسية اكبر حتى تحقيق التأييد الشعبي (الضغط الجماهيري) اللازم لمطالب المحتجين بالتغيير.

من الطبيعي سعي منظومة المحاصصة و الفساد لاحتواء الحركة الاحتجاجية الناشئة داخل النظام الطائفي، ومحاولة استقطاب عناصرها الناشطة عن طريق اغرائهم بالتحالفات والائتلافات، ترهيب آخرين منهم للرضوخ الى التهديدات او محاولة اذابة احد اطرافها في الاحزاب البرلمانية. إلا ان الحركة الاحتجاجية هي سلسلة متواصلة الحلقات، تشكل رؤية تهدف الى اعادة عملية الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي الى مسارها الصحيح بتقليم شوائبها وتجاوز معوقاتها. فكيف لنا ان نسمي انفسنا اصحاب الحركة الاحتجاجية دون الاستمرار حتى تحقيق تلك الرؤية و بلوغ أهدافها في تحسين حياة العراقيين وتحقيق التقدم في بناء مشروع دولة المواطنة. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

 علي حسين إذن، وبوضوحٍ شديدٍ، ومن غير لفٍّ أو دوران، لا تنتظروا إصلاحات ديمقراطية ولا حلاً للأزمات السياسية التي ما أن تنتهي واحدة حتى تحاصرنا واحدة جديدة ، ولا تطمئنوا لأن الإعلام يزعج...
علي حسين

قناطر: السَّرّاجي: القرية والنهر والجسر

طالب عبد العزيز " ثمة قليل من الاغريق في سان بطرسبورغ "جوزيف برودسكيكثيراً ما أسأل نفسي: أيمكن أنْ يكون الشاعر مؤرخاً، أو كاتباً لسيرة مدينته؟ فأجيبُ: أنْ نعمْ. ولعلي الى الثانية أقربَ، فأنا ممسوس...
طالب عبد العزيز

في طبيعة المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية ومهامه

د. فالح الحمـراني تطرح قضية تفعيل المجتمع المدني في العراق اليوم نفسها بصورة حادة، لا سيما على خلفية تقصير المؤسسات المنتخبة وأجهزة الدولة في أداء دورها المطلوب حتى في إطار القوانين المتعارف عليها في...
د. فالح الحمراني

الاقتصاد الهندي من التخلف إلى القوة الاقتصادية

موهيت أناند ترجمة: عدوية الهلالي منذ أن بدأت الإصلاحات الاقتصادية في عام 1991، عندما تخلت عن نموذجها الاقتصادي الحمائي والاشتراكي، أصبحت الهند ثالث أكبر اقتصاد (بعد الصين والولايات المتحدة) من حيث الناتج المحلي الإجمالي.،...
موهيت أناند
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram