ستار كاووش
حين إقتربت من متحف أوفيزي في مدينة فلورنسا الايطالية، لم يكن في ذهني سوى لوحة ميدوزا التي أبدعها الرسام الايطالي العظيم كارافاجيو (١٥٧١-١٦١٠)، ميدوزا بجمالها الغريب وما تحمله من تأثير وقوة وعنف وسطوة لاتنتهي. يالهذا العمل الفني الذي يجعلك تقف أمامه لتستعيد سيرة فنان ملهم،
وتسترجع شخصيته التي تميزت بالغرابة. تحركتُ يميناً ويساراً أمام هذه اللوحة الدائرية التي عُرضت في مكان مخصص وسط الصالة بدلاً من تعليقها على الجدار، وتحسست جيداً هيئتها وتقنيتها والإبتكار الجمالي الذي خلده كارافاجيو. أمام هذه اللوحة، عرفتُ سحر الفن الذي يمكن أن يحول العنف الى جمال، ويجعل الألم حكمة تمضي مع الزمن لتصل إلينا كإنها أنباء بعيدة يُرسلها لنا هذا الفنان العظيم. لم أَرِدْ أن أُبارحَ مكاني وأنا أقف أمام جمال غريب وقوة أداء مذهلة، وفرادة تؤكد إن ايطاليا هي أم الفن وهي الأرض التي صنعت الجمال الممزوج بالمعرفة والأسطورة والإبداع العظيم. لقد مرت أكثر من أربعة قرون ومازالت هذه اللوحة تحضى بمكانة إستثنائية في تاريخ الفن، إنها العلامة الفارقة التي مجدت إسم كارافاجيو وجعلت سمعته الفنية تتجاوز حدود ايطاليا لتؤثر على رسامي هولندا وفرنسا وباقي الدول الأوروبية.
فما حكاية هذه اللوحة ولمَ توقفتُ بإنبهار أمام تقنيتها ومعالجاتها الفنية وأُسلوب رسمها؟ ثم من هي ميدوزا؟ ومن الذي قطع رأسها بهذه الطريقة البشعة؟ لقد إستند كارافاجيو في رسم لوحته على أسطورة ميدوزا، وهي امرأة أصابتها لعنة الآلهة مينيرفا وحولتها الـى وحش، حيث صار لها أيدي برونزية ونبتت لها أجنحة ذهبية، وإنبثقَ من رأسها بدل الشعر، عدد كبير جداً من الثعابين السامة، وكل من كان ينظر اليها يتحول الى حجر. وقد قام بيرسيوس إبن الاله زيوس بقطع رأسها، بإستخدام درع يحميه من رؤيتها بشكل مباشر.
الإبتكار الأول الذي قام به كارافاجيو هو إنه رسم لوحته على درع دائري، وبذلك كسر النمط التقليدي للوحة الكلاسيكية، كذلك وضعنا مباشرة أمام شكل الدرع الذي منحته الآلهة أثينا الى بريسيوس ليقوم بهذه المهمة الصعبة. وقد أراد كارافاجيو من إختيار هذا الشكل الدائري لَلَّوحة، أن يصور إنعكاس وجه ميدوزا على الدرع لحظة قتلها. يضاف الى ذلك، إن كارافاجيو جعلَ سطح اللوحة محدباً كإنها عدسة (وهذا ما يفسر وضعها وسط الصالة وليس على الجدار، كي تُتاح رؤيتها من الجوانب) حيث بدت اللوحة كإنها ثلاثية الأبعاد، وكي يدفع مغامرته الإبداعية الى أقصاها، قامَ كارافاجيو برسم وجهه في اللوحة، وهنا استبدل ملامح ميدوزا بملامحه، وكإنه يُشير الى لامبالته وعدم تردده أمام تأثيرها ونظراتها القاتلة، فهو الذي يملك زمام التحكم بالمشهد.
هذه اللوحة مثال رائع لفن كارافاجيو وقوة شخصيته والغموض الذي يتمتع به، إنها تختصر العنف والقوة والغرابة التي تميزت بها شخصيته، كذلك الكمال الذي طبع أعماله التي بدتْ دون أخطاء ولا عثرات أو هنات. ميدوزا هنا مثال على الموازنة بين إكتمال فنه وتقلبات شخصيته العنيفة التي لم تتكرر في كل تاريخ الفن.
رأس ميدوزا هنا مقطوع، لكننا نشعر بحياتها في لحظاتها الأخيرة، تتدفق الدماء الى الأسفل والأفاعي تتحرك في الأعلى، والفم مفتوح يصرخ بهلع، مع صف من الاسنان الصغيرة، والعيون المفتوحة بشكل مروع.
كانت تحضيرات كارافاجيو لرسم هذه اللوحة معقدة جداً، حيث إختار درعاً من خشب الحور، ثم ألصق عليه قماش كتان، وطلا القماش بأربع طبقات من الطلاء الذي يستخدم في تحضير الكانفاس، ثم أضاف طبقة خامسة أكثر نعومة كي يجعل اللوحة تبدو لامعة مثل العدسة، وفوق هذه الطبقة اللامعة وضع طبقة خضراء أعدها من خليط الزئبق والرصاص والقصدير، وبعد جفاف هذه الطبقات بشكل جيد، غطاها بثلاث طبقات أخرى خفيفة من بعض الزيوت والتربنتين وشمع العسل. وهكذا كانت تحضيرات كارافاجيو قبل البدء برسم اللوحة مثل تحضيرات شخص يدخل الى مختبر. وبعد أن أكملَ رسم اللوحة، أضاف لها في النهاية طبقات خفيفة من الورنيش الذي يحفظها من تأثيرات المناخ ويجعلها تُقاوم الزمن، ولهذا صارت تبدو كجوهرة حتى بعد أربعمائة وعشرين سنة من رسمها. وهذا أيضاً يقول ما فيه الكفاية حول حاجة العمل الفني العظيم الى جهد مضني ودراية كبيرة، وحين يُضاف الى ذلك موهبة مذهلة مثل التي لدى كارافاجيو، فستكون النتيجة أن يأتي الناس من كل مكان في العالم لرؤية هذه التحفة، كما أراهم الآن وهم يتجمعون حولي لرؤية هذا العمل المهيب.