TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > إبراهيم الحريري: الشيوعي الزاهد الذي غادرنا

إبراهيم الحريري: الشيوعي الزاهد الذي غادرنا

نشر في: 28 مارس, 2023: 11:34 م

خليل فضل عثمان

مرة أخرى تنكسر الروح، ويهمي الحزن، الذي انسكب في القلب منذ أن تلقيت نبأ رحيل الروائي والصحفي العراقي، الشيوعي الزاهد دائمًا وأبدًا، إبراهيم الحريري، الذي غادرنا في 26 آذار/مارس الجاري. كان أبو فادي شيوعيًّا من طراز آخر.

ما عرفته إلا شيوعيًّا عتيقًا، معتّقًا، احتضن الماركسية طوبى يهفو لها القلب، ويقينا راسخًا في الوجدان. ومنذ أن عرفته لم يبارحني السؤال: كيف يحتفظ هذا الرجل الطارق أبواب الشيخوخة بألق البدايات، وبراءة الشباب، وزهد المناضلين، ونقاوة الثوريين وأحلامهم، في زمن شهد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتلتهم فيه الليبرالية الجديدة شيوعيي عالمنا العربي، مشرقًا ومغربًا؟

كان لقائي الأوّل به في أواخر التسعينيات على هامش ندوة أقامها الاتحاد العربي الكندي في تورنتو وتحدث فيها الراحل الدكتور جان عصفور. كان النقاش محتدمًا في أوساط المعارضة العراقية في الخارج في ذلك العصر والأوان حول مشاريع ارتأت أن تغيير النظام في بغداد يمرّ عبر واشنطن، سواء عبر تقديمها دعمًا تسليحيًّا مباشرًا للمعارضة أو عبر التدخل العسكري الأمريكي المباشر. دنا مني، وكنت في ذلك الحين مراسلًا لراديو كندا الدولي في تورنتو، وابتدرني بالقول: "حتى لا تقولوا إن كل العراقيين هم مع الخيار الأمريكي"، وناولني بيانًا للحزب الشيوعي كان يوزّعه على الحاضرين يؤكد فيه الحزب على معارضته للتدخل الأمريكي في العراق وتأييده للخيار الوطني في عملية تغيير النظام.

منذ ذلك الحين، تكرّرت لقاءاتي به وتعرفت عليه عن كثب أكثر. كان إبراهيم الحريري سليل عائلة عراقية من الكاظمية ذات أصول تركية. وكانت والدته تنتمي إلى عائلة بيروتية. ولد في بيروت حيث أمضى سنوات طفولته وصباه وتعرّف فيها على الشيوعية عن طريق أحد أخواله الذي انتمى إلى الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، كما كان الحزب يُعرَف في ذلك الحين قبل أن يُقسّم إلى حزبين، سوري ولبناني، في أواسط الستينيات، وتنشعب بانقسامه قلوب الشيوعيين في البلدين. وكان أن انخرط إبراهيم الولد في أنشطة الشيوعيين في بيروت إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، حيث أرخت سلطات الانتداب الفرنسي قبضتها الأمنية التي سلّطتها على رقاب الشيوعيين بسبب تحالف فرنسا الحرة مع الاتحاد السوفياتي. فشارك في التظاهرات التي كان ينظّمها الحزب تأييدًا لـ"الحرب الوطنية العظمى"، كما درجت الرطانة الشيوعية على وصف مشاركة الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، وكان له نصيب في أنشطة أخرى مثل توزيع البيانات الشيوعية المؤيدة "للسلم العالمي" التي دأب الشيوعيون على توزيعها في تلك الحقبة. وفي عام 1943، شارك الولد إبراهيم في التظاهرات التي اندلعت في لبنان عقب اعتقال سلطات الانتداب للرئيس بشارة الخوري وجملة من المسؤولين والتي مهدت الطريق لنيل لبنان استقلاله. محمولًا على أكتاف المتظاهرين كان إبراهيم الولد يقود الهتافات ضد الانتداب.

وعقب انتقال إبراهيم مع عائلته إلى العراق بعد الحرب، بدأت مسيرته التنظيمية في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. مثل نحلة يجتذبها رحيق الزهر، انجذب إبراهيم إلى الحزب، الذي كانت السلطات قد علّقت بعضًا من أبرز قادته التاريخيين على أعواد المشانق. لم يفتّ مشهد الإعدام في عضد الولد المشاكس المجاهر بشيوعيته في محلّة الأعظمية التي ساد في أوساط سكانها توجّهان كلاهما معادٍ للشيوعية: إسلامي يميل إلى تنظيم "الإخوان المسلمين"، وقومي عربي. كان إبراهيم الولد في مجاهرته بالقول بالشيوعية يصدر عن روح جُبِلت على المشاكسة والعناد والتحدي. ولم يبارح إبراهيم في قرارة نفسه ووجدانه تلك السنوات التأسيسية في بيروت وبغداد. لا هو غادرها، ولا هي غادرته. فتعاقب السنين لم يعف صورة الولد المشاكس الساكنة في قلب إبراهيم، فظلت تطلُّ علينا من خلال كتاباته. كانت صورة الولد المشاكس في كتابات إبراهيم نجمة اليسار التي لا تخبو.

بعد ثورة 14 تموز/يوليو التي أطاحت بالملكية في عام 1958 وخروج الحزب الشيوعي العراقي إلى العلن، أشرع إبراهيم قلمه ونشر أشرعته في عُباب الصحافة الحزبية، حيث زاول الكتابة في صحيفة "اتحاد الشعب" التي أصدرها الحزب علنا بعد الثورة، ومن ثم في صحيفة "طريق الشعب" التي بدأ الحزب بإصدارها سرًّا في عام 1961. كما انخرط في العمل النقابي، وخصوصًا في نقابة عمال النسيج. ولئن طبع الصراع بين القوميين والشيوعيين فترة حكم عبد الكريم قاسم، فلقد غرق إبراهيم في لجّته. كان الانقلاب الذي قاده البعثيون وأطاح بقاسم في شباط/فبراير 1963 قاصمة ظهر بالنسبة للشيوعيين العراقيين. شارك إبراهيم مع مَنْ شارك من شيوعيي تلك المرحلة في المقاومة المسلحة التي سعت إلى إحباط الانقلاب. فحمل السلاح وشارك في القتال ضد الانقلابيين في محلة عقد الأكراد في بغداد. ولكن الانقلابيين سحقوا المقاومة وحسموا المعركة بسرعة ليؤول الأمر بإبراهيم، في قافلة ضمّت المئات وربما الآلاف من الشيوعيين، نزيلًا في سجن "قصر النهاية"، القصر الملكي الذي حولته ميليشيا حزب البعث آنذاك، التي عرفت باسم "الحرس القومي"، إلى سجن تُمارَس في حقّ نزلائه فنون التعذيب الوحشي.

كان قصر النهاية وحشًا يفتح شدقيه ليبتلع نزلاءه، وإن لم يبتلعهم خرجوا منه وهم يحملون على أجسادهم وفي أرواحهم ندوبًا غائرة لا تندمل. كان هذا حال إبراهيم الذي خرج من ظلمة السجن ليبدأ رحلته الطويلة على دروب المنافي وأرصفتها والتي حطّ فيها الرحال في عدد من الدول من بينها الكويت، ولبنان، وسورية، ومصر، وكندا.

وخلال رحلته الطويلة تلك لم يُسقِط إبراهيم أقلامه، ولم ينكّس راية النضال السياسي. كانت مقالاته التي يكتبها عن العراق مشبعة بالشجن والحنين وتعبق بأريج وَجْدٍ يستحضر في الأذهان وجد المتصوّفة. وإبان حرب الخليج عام 1991 أعلن لوحده إضرابًا عن الطعام استمر لأيام طويلة في إحدى كنائس تورنتو. وفي عام 2002، اشترك إبراهيم في إضراب آخر عن الطعام شاركت فيه مجموعة من الشباب الكنديين العرب اعتصموا في خيام نصبوها أمام مبنى بلدية تورنتو احتجاجًا حصار القوات الإسرائيلية مدينة جنين ومخيمها ضمن حملة قمعية لإخماد الانتفاضة الفلسطينية الثانية. كان الطقس شتويًّا في ذلك الحين، ولكن إبراهيم الذي كان يعاني من جملة من المشاكل الصحية رفض الانحناء أمام الزمهرير الكندي القارس الذي ينخر العظام، وأصرّ على المشاركة في الاعتصام. ولما حاول أحد الأطباء العرب الذين تطوعوا لإجراء فحوص طبية يومية على المعتصمين إقناعه بفك إضرابه لدواعي صحية، وكانت المحاولة هذه بطلب مني ومن زوجة إبراهيم، اعتصم بالرفض والممانعة. حدّق إبراهيم بي من بعيد وهو يجلس في الخيمة والطبيب يقيس له ضغطه، وصاح يخاطبني: "هل قرأت كتاب’ المؤامرة الكبرى على روسيا‘، يا خليل؟" كان استخدامه لعنوان كتاب ميشال سايرز وألبير كان، الذي راج في أوساط الشيوعيين في الخمسينيات والستينيات، تعريضًا مبطّنًا بي يوحي من خلاله بأنني جزء من مؤامرة عليه لثنيه عن عمل نضالي في سبيل فلسطين. ولحدّ الآن يحيّرني السؤال كيف عرف إبراهيم أنني طلبت من الطبيب إقناعه بفك إضرابه. أغلب الظن أنها فراسة تطبع أصحاب القلوب النقية.

عاد إبراهيم إلى بغداد مباشرة بعد الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، وأقام في أحد المقرات التابعة للحزب الشيوعي العراقي في شارع أبو نواس على شاطئ دجلة، مُكرِّسًا كامل وقته وجهده وطاقته للعمل الحزبي وفي صحيفة الحزب "طريق الشعب". اكتفى من بهارج الدنيا في تلك الفترة بغرفته، أو بالأحرى صومعته، في مقر الحزب وبدراجته الهوائية التي كان يتنقل بها ويستخدمها لتوزيع صحيفة الحزب على البيوت والمحلات ونقاط التفتيش العراقية. التقينا عدة مرات في تلك الأشهر العصيبة في بغداد المثخنة بجراح الحصار والقمع والحرب وحِرابِ الاحتلال، حيث انتدبتني البي بي سي في مهمات صحفية طال أمدها في العراق. وكانت بعض لقاءاتنا في صومعته، التي تفيض بكتبه وأوراقه ودفاتره، حيث كنت أزوره لنتجاذب أطراف الحديث ونخوض في شؤون السياسة العراقية وشجونها ونحن نحتسي ما يحضره بيديه من أكواب شراب النارنج وأقداح الشاي العراقي. سألته ذات مرة عن تقييمه لوضع الحزب الشيوعي العراقي بعد زوال الدكتاتورية وما إذا كانت الشيوعية لا تزال جاذبة بعد انفراط عقد الكتلة الاشتراكية. فأجابني بأنه فوجئ بعد عودته إلى العراق بما لمسه من فرص توسيع قاعدة الحزب الشعبية وجاذبية الحزب لدى القطاعات الشبابية، معربًا عن تفاؤله بمستقبل الحزب.

انقطعتُ عن العراق بضع سنوات، ولما عدت عام 2009 للعمل في العراق، ولكن كموظف في الأمم المتحدة هذه المرة، جاءني لزيارتي في مكتبي، متحمّلًا صعوبة إجراءات التفتيش التي يخضع لها زوار المنطقة الخضراء. أهداني في تلك الزيارة كتابين كان قد أصدرهما يضمان مجموعة من المقالات التي كان يواظب على نشرها في صحيفة طريق الشعب وقرأتهما بشغف لاحقًا. تحدّثنا مطوّلًا في شؤون السياسة العراقية، وذكّرته بسؤالي الذي وجهته له عن وضع الحزب قبل سنوات، فهز برأسه بأسى، وقال لي إنه كان مخطئًا في التقدير. لم أسأله عن سبب هذا التغير في تقديره، فلم أَشأ أن أنكأ له جرحًا غائرًا في قلبه الذي أتعبته السنين.

لم أتمكن من رؤية إبراهيم بعد ذلك. فلقد حالت دون ذلك صعوبات الوضع الأمني والإجراءات الأمنية المعقّدة. بعد فترة من آخر لقاء لي به، التقيت بمفيد الجزائري، الشيوعي الذي تولى حقيبة الثقافة في حكومتي مجلس الحكم والحكومة المؤقتة التي تولى رئاستها أياد علاوي، فسألته عن إبراهيم، فأفادني بأنه قد عاد إلى كندا لأنه بحاجة إلى رعاية صحية وطبية ليست متاحة له في العراق.

واليوم، يغادرنا إبراهيم إلى عالم الأبدية، تاركًا لنا ذكريات تعبق بأريج زهر النارنج، ونشوة الثوريين، وعذابات السجون، وأحزان العراق المقيمة وأوجاعه. لروحك الرحمة والسكينة والسلام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Anonymous

    له الذكر الطيب ولروحه السلام

يحدث الآن

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

 علي حسين إذن، وبوضوحٍ شديدٍ، ومن غير لفٍّ أو دوران، لا تنتظروا إصلاحات ديمقراطية ولا حلاً للأزمات السياسية التي ما أن تنتهي واحدة حتى تحاصرنا واحدة جديدة ، ولا تطمئنوا لأن الإعلام يزعج...
علي حسين

قناطر: السَّرّاجي: القرية والنهر والجسر

طالب عبد العزيز " ثمة قليل من الاغريق في سان بطرسبورغ "جوزيف برودسكيكثيراً ما أسأل نفسي: أيمكن أنْ يكون الشاعر مؤرخاً، أو كاتباً لسيرة مدينته؟ فأجيبُ: أنْ نعمْ. ولعلي الى الثانية أقربَ، فأنا ممسوس...
طالب عبد العزيز

في طبيعة المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية ومهامه

د. فالح الحمـراني تطرح قضية تفعيل المجتمع المدني في العراق اليوم نفسها بصورة حادة، لا سيما على خلفية تقصير المؤسسات المنتخبة وأجهزة الدولة في أداء دورها المطلوب حتى في إطار القوانين المتعارف عليها في...
د. فالح الحمراني

الاقتصاد الهندي من التخلف إلى القوة الاقتصادية

موهيت أناند ترجمة: عدوية الهلالي منذ أن بدأت الإصلاحات الاقتصادية في عام 1991، عندما تخلت عن نموذجها الاقتصادي الحمائي والاشتراكي، أصبحت الهند ثالث أكبر اقتصاد (بعد الصين والولايات المتحدة) من حيث الناتج المحلي الإجمالي.،...
موهيت أناند
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram