طالب عبد العزيز
يعترضُ جزءٌ من منارة مسجد السَّراجي طريق ابي الخصيب- البصرة، وبما يتسبب في بطء حركة سير المركبات. هناك برم وتذمّر من مستعملي الطريق، اسمعه من الراكبين معي، في الميني باص. البعض يرى في هدم المنارة ضرورةً لفكِّ الازدحام، عند نقطة المسجد،
والآخر يرى في رفعها والاحتفاظ بها في مكان آخر حفظاً لها، فهي معْلمٌ عمره ثلثمائة سنة، وهناك من يقول بهدم المسجد مع المنارة، فالحياة وحركة الناس وفك الازدحام أمر يتعلق بحياتهم، وسعيهم في كسب أرزاقهم، وإنَّ الصلاة تصحُّ في أيِّ مكان على الارض، وإنَّ المدنية تقتضي التوسعة.
اعتقد بأنَّ الامرَ لا يختلف عن ما يثار في النجف، وقضية هدم سوق الحويش، والتوسعة المبتغاة حوالي ضريح الامام علي، وهذه قضية لم تؤخذ بنظر المشرع العراقي، أو أنها فقرة معطلة في القانون! لكن، من قال بأنَّ كلَّ توسعةٍ صحيحةُ؟ هناك فعل مشوش في التعامل مع التراث، لا يصحُّ للقائمين على أمر المقامات المقدسة التهام التراث، بغض النظر عن مصالح الناس وتجارتهم. كلُّ علامة في السوق حوالي ضريح الامام علي وكل حجارة في منارة مسجد السراجي وقبة أبي الجوزي وطاق كسرى وضريح الحلاج ومسجد الزبير وكنيسة الكلدان وو لها معنى في الروح العراقية، وأيُّ عبث بها هدم للروح هذه، وقضية تحمل في طياتها من الاساءة ما تحمل، وهي محو لذاكرة شعب، يريد أنْ يظلَّ في وجدان الامم.
هناك حربٌ تشنُ بالعلن والخفاء ضد الذاكرة العراقية، وهناك أفعال يتباين موقفنا منها بين القصد والغباء، وبين الجشع والاستهتار. يؤازر ذلك تبرير للخطأ بالعمران وبناء المولات، ومثله تبرير لتردي الزراعة باقامة المدن، و تبرير لهدم الاثر تحت مسمى المدنية، وتسويغٌ لطرد الفلكلور باستيراد الدمى من الصين، وهكذا يتم ابتذال الحِرف اليدوية. كان الترابُ حكاية الذاهبين والآيبين قبل الأسفلت، وكان ماء النهر قريباً من قلوب الناس قبل أنْ يمسخ في علبة البلاستك، وما أجمل الاقدام، ما أرقَّ الخطى قبل أنْ تُختزل بالمركبات. أرى أنَّ ما نفعله بالتراث والاثر في مختلف حياتنا هو ما فعله الغرب حين مسخ جمال المرأة بأفلام البورنو. وما فعله بالاسد حين جيئ به من الغابة الى حديقة الحيوانات.
لدينا مسؤولون يتعاملون مع الاثر كما يتعامل المراهق مع فكرة المرأة الصينية. أنْ تهدَّ مسجداً قديماً لا يعني أنك تهدَّ حجراً، وتراكم تراباً حسب.كلُّ حفنة من التراب ذاك معنى من معاني الوجود، وكل طابوقة تستبدل بأخرى جديدة في مبنى ما مسخٌ لهوية وتشويهٌ لحياة. لا يمكننا بخس حق الناس في معاينة ما دأبوا على رؤيته يومياً، في كل زاوية من ما نهدمه حكاية، وفي كل التفاتة عينٍ لا تجده خيبةٌ. لا يختصرُ طبق الخوص بصينية اللدائن، ولا يُستخفُّ بالنَّعلِ الزبيريِّ في دكانة بائع الأحذية بشارع الوطني، ويرتكب خيانة من يستبدل بساط الصوف المُشترى من أسواق الحيِّ بالكوت بآخر نسجته الماكنة. يتوجب علينا تدريب أصابعنا على تلمس آيات الصدق والاخلاص في ما يخرز الزبيريُّ ويصنع، وعلينا تتبع قطرات العرق وهي تتسرب في وشائع الصوف الغضِّ، حيث نجلس، مثلما علينا تأملَ الضوء النبيل الكامن في روح الحجر وهو يسقط بالآلة الحديد، في سوق الحويش، وشارع الرشيد، وسكك الموصل القديمة وسواها. هناك حيث تلتبسُ الطفلولةُ في دمية.