لطفية الدليمي
مشاهدةُ الفلم السينمائي (صحوات Awakenings) تجربةٌ أكثر من رائعة. هذا الفلم المثير مقتبس عن كتاب كتبه الطبيب النفسي الراحل (أوليفر ساكس) المعروف بكتبه المميزة. سبق لي أن ترجمتُ مادة قصيرة عنوانها (حياتي) نشرتها قبل سنة تقريباً في ثقافية (المدى)،
وفيها يحكي ساكس عن إصابته بمرض السرطان وقرب موعد مغادرته للحياة. كنت أرتجف وأحبس أنفاسي وأنا أتابع الترجمة. من أين لإنسانٍ محتضرٍ كلّ هذه القوة والسطوة على ملاعبة الموت وتشريح حياته السابقة بمبضع من الموضوعية الصارمة وكأنه يحكي عن موت قريب لفأر تجارب مختبرية؟
دعونا مع فلم (صحوات). أطلِق الفلم أواخر عام 1990 عندما كان العراقيون يُمسكون أنفاسهم خوفاً من الايام القريبة القادمة. لم يكن مزاجهم يستطيب الافلام في محضر فلم الرعب العراقي؛ لذا مرّ فلم (صحوات) من غير كثير إنتباهة من جانب العراقيين. أظنُّ أنّ هذا الفلم هو من فئة الافلام التي تتعالى على مفاعيل الزمان والاندثار الفكري. يمكن مشاهدة الفلم في أيامنا هذه بالشغف ذاته والمتعة ذاتها لمن شاهده في وقت إطلاقه.
أبدع العبقري الراحل (روبن ويليامز) في دور الطبيب الذي جرّب علاجاً إكلينيكياً غير مختبر لعلاج (أو تخفيف) أعراض حالة مرضية تدعى (التخشب الفصامي Catatonic Schizophrenia)، وهي حالة موصوفة سريرياً تحصل بسبب إصابات دماغية بعلل إلتهابية بكتيرية أو فايروسية وتأتي بأشكال متعددة؛ لكنّ نتيجة كلّ الحالات هي شخصٌ مشلول الفكر والفعل من الناحية الواقعية، يبدو كجذع شجرة يابسة!! أبدع في التمثيل ممثلون عالميون منهم (روبرت دي نيرو).
أظنّكم إختبرتم شكلاً من أشكال العجز عن أداء أي فعل منتج في وقت سابق. قد ينهض أحدنا صباحاً فيرى نفسه كتلة صلدة تعاني مشقة هائلة في مغادرة الفراش. لستُ أقولُ أنّ البشرية تعاني حالة تخشب مرضية بدرجة من الدرجات قد تكون أخفّ من أبطال فلم (صحوات)؛ لكني أظنُّ أنّ عالمنا يمتلئ بالكثير من الوقائع والفجائع التي تجعل المرء يصارع نوماً يستعصي عليه، ثمّ إذا حلّ النوم فقد يأتي متقطّعاً لايمنح المرء فسحة من راحة مديدة كتلك التي كانت تجربة عادية في سنوات سابقات. ماذا ستكون النتيجة بعد كلّ هذا؟ تجربة نوم سيئة سيجد أحدنا بعدها نفسه عاجزاً ربما حتى عن إعداد فطوره الصباحي.
كيف يمكن للمرء وسط كلّ هذه المنغّصات المعيقة أن يمارس وظائفه اليومية بإنسيابية؟ ليس واحدنا سوبرمانا - يقوى على كلّ مشقات الحياة. دعونا نعترف بهذه الحقيقة وهي ليست ممّا يعيبُ أو يقلّلُ الشأن. أهمسُ لنفسي دوماً أنّ حياتنا – نحن العراقيين – تحفلُ بوقائع كفيلة بهرب حتى أكثر الشياطين دهاءً وموهبة في المناورة والكذب والتلفيق من وحل المشهد العراقي. لايمكن لنا مهما حاولنا شطب الهمّ العراقي من قائمة اهتماماتنا. أعترفُ أنّ جُلّ همومي التي تعيقني وتزيد معاناتي الصحية هي بسبب العراق وجروحه التي تأبى الالتئام وتستعصي على التشافي.
أنهضُ بعض الايام من نومي صباحاً بتثاقل وخطوات بطيئة. أين خفّة ونشاط الليلة السابقة؟ أستجمعُ كلّ أوشال طاقتي الباقية لكي أغسل وجهي وأتناول لقمة فطور بسيطة تعينني على تناول الدواء. كم أرتعبُ عندما أفكّرُ في بعض مشاهد فلم (صحوات): ماذا لو عجزنا أو فقدنا الرغبة في مدّ يدنا لتناول لقمة ووضعها في أفواهنا؟ شلل الرغبة هذا يستلزم إرادة نيتشوية جبارة لكسر سلسلة النكوص التي يريد لك جسدك أن تقتفي أثرها وتصبح أسيراً لها.
أفتحُ حاسوبي وأفكّرُ في المادة التي سأكتبها سواء أكانت مقالة أم موضوعاً مترجماً أم مادة مطوّلة ذات طبيعة تستجلب التفكّر والمساءلة وامتحان قناعات راسخة. أبقى أحياناً ساعات مسمّرة إلى شاشة حاسوبي. ترتسم في رأسي سيناريوهات عديدة لموضوعات كثيرة سبق لي التفكير فيها في أيام ماضيات؛ لكنْ ماكلُّ ماتفكّرُ فيه تكتبه على الورق أو على شاشة حاسوبية. لابدّ من رؤى متعددة، وكتابة، ثمّ إعادة كتابة مرات ومرات. من يتصوّرْ أنّ الكتابة مثل صنبور ماء ينفتح متى ماأردت فهو واهمٌ أشدّ الوهم. لديّ مقايستي الخاصة في هذا الشأن والتي على ضوئها أقتنعُ متى يكون ماأكتبه مقبولاً، وبعكس هذا سأظلّ أعيد الكتابة مرّات ومرّات.
تحدّثني نفسي أحياناً: مالكِ وهذا الصراع مع روحك؟ لماذا تنهشينها بهذه القسوة؟ أغلقي الحاسوب ودعي أمر الكتابة لوقت لاحق؛ لكنّ صوتاً خفياً أعلى وقعاً يعاكسُني ويقول: لو إستمرأنا التأجيل فأين سننتهي؟ سيصبح التأجيل عادة مستقبحة.
أبدأ الكتابة ببطء وتثاقل وإيقاع لايكاد يُدرك، ثمّ بعد وقت قصير ينتظم الايقاع وتتسارع وتيرة الكتابة. صار القانون لدي على هذه الشاكلة: في الكتابة غير الابداعية أبتدئ بإيقاع ثقيل وأنتهي بخفّة حركات راقصة باليه. الكتابة الابداعية شأنها يختلف تماماً، أبتدئ فيها مثل قذيفة صاروخية وأظلّ أكتب حتى ينفد الوقود.
لماذا هذا التأكيد على وجوب مصارعة ذلك الصوت الذي يدعونا للإنكفاء والهرب من حلبة الكتابة؟ أسباب كثيرة تلك التي تدفعني لذلك. عندما أشرعُ بالكتابة، ومهما كان شعوري متعاظماً بالتثاقل لسبب نفسي أو جسدي (وجع رسغي ورقبتي على سبيل المثال) فإنّ عيني ترنو لخطّ النهاية الذي ستكون مكافأتي فيه شعوراً غير مسبوق بخفّة الروح والانطلاق والبهجة، وسيكون من قبيل سوء النظر والتقدير خسران تلك المكافأة العظيمة بسبب ثقل خط الشروع. أحدّثُ نفسي دوماً كلّما شرعتُ بالكتابة: إثبتي قليلاً وتحمّلي أوجاعك لأنّ المكافأة المنتظرة ستنسيكِ آلام الشروع. مامِن شيء يأتي بالمجان في هذا العالم، وذلك قانون أراه صائباً ويمتلك مشروعيته الكاملة. المكافآت المجانية نتاجُ عقل معطوب أو روح مسكونة بالاوهام.
لاأخفيكم سرّاً أنني أمتعضُ أحياناً وأصابُ بإحباط معيق كلّما رأيتُ عدّاد القراءات وهو يشيرُ لقراءات محدودة لبعض موضوعاتي. هذه حقيقة أعيشها؛ لكنّي كيّفتُ نفسي وعقلي على سقوف واطئة من التوقعات. التوقعات العالية ليست نتاج عقل خَبَرَ هذه الحياة وعرف طبائع الناس وكيف يفكّرون. حصل مرّة أو مرّتين أن إعتزمتُ التوقف عن الكتابة؛ لكني أسائلُ نفسي: وهل سأكون بحال أفضل لو توقفتُ عن الكتابة؟
لو قيل لي لنفترضْ أنْ ليس من قارئ يقرأ ماأكتبُ أو أترجم؛ فهل سأمضي في الكتابة؟ نعم سأمضي في الكتابة على الاقل من أجل راحة روحي. ثقيلٌ على النفس أن لايقرأك أحد؛ لكن بوسعك أن تكتب لكائنات غير مرئية.
كيف سيكون الحال لو قرأك قارئ واحد فحسب؟ حينئذ يختلف الحال. سيكون من موجبات النزاهة أن تكتب لهذا القارئ الأوحد وتقدّم له أفضل أفكارك وكأنك تكتب لسكّان الارض جميعاً، وحتى لو بلغ وجع رسغك ورقبتك مبلغ الاعاقة الحقيقية التي تجعلك شبيه (روبرت دي نيرو) في فلم (صحوات).