اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: أنت بَطَلٌ. هل تعرفُ ذلك؟

قناديل: أنت بَطَلٌ. هل تعرفُ ذلك؟

نشر في: 8 إبريل, 2023: 10:52 م

 لطفية الدليمي

قد يبدو الحديثُ عن بطولة العيش نمطاً إستعادياً لرؤية نيتشوية غابرة. ليس الامر كذلك. كلٌّ منّا بطلٌ سواءٌ سعى للبطولة أم لم يطلبها. بذرةُ البطولة في العيش تكمنُ في مأساوية الحياة؛ أو لنضع العبارة في صياغة أجمل جعل منها الفيلسوف الاسباني ميغيل دي أونامونو عنواناً لأحد أشهر كتبه: الحس المأساوي بالحياة The Tragic Sense of Life.

كلّ حياة بشرية هي مشروع مأساة كاملة. المأساة لصيقة بكلّ وجود بشري. قد نلجأ لبعض المناورات التأويلية في التخفيف من مأساوية الحياة؛ لكن لن يمكننا إستبعادها أبداً. أنت تولدُ فتولدُ معك حياةٌ جديدةٌ تضاف لملايين أو مليارات من حيوات أخرى، ومعك تولدُ نهاية محتومة تنتظرك بعد سنوات قد تطولُ أم تقصر لكنها آتية لاريب فيها. ستواجهك في الحياة مآسٍ كثيرة: مرضٌ وتعب ومشقات وأعطابٌ في البدن وانكسارات في الروح وانكفاءات في قدرة الذهن؛ لكنك برغم كلّ هذا تقبلُ العيش؛ بل لن ترضى بالعيش المجرّد المكتفي بالحاجات البيولوجية البدائية وإنّما تظلُّ تتطلّعُ لسقوف عالية من الانجاز وتحقيق الذات. أليست هذه بطولة؟

كيف تتحقق هذه البطولة على الصعيد اليومي؟ يبدو نكران الجوانب المأساوية في الحياة وغضّ الطرف عنها مقاربة مقبولة. عشْ حياتك كمن سيمتدُّ به العمر إلى نهايات بعيدة غير منظورة. إسعَ لأن تبلغ ألأقاصي الابيقورية المشتهاة. الحسُّ الابيقوري هذا ربما كان المخرج العالمي (وودي آلن) هو أحدُ أفضل من تناولوه سينمائياً. الانسان عندما يعيشُ لُجّة الحياة ومتطلباتها القاسية التي تفرضُ عليه أن يكون كائناً صراعياً فإنّ هذا الصراع إنما يوفّرُ له شكلاً من أشكال الانشغال Distractionالذي سيكون مثل ملاذ يلتجئ إليه الانسان بطريقة غير واعية ليبعده عن التفكير في المآل المأساوي للحياة. مِثْلُ هذه الرؤية الابيقورية نراها في النص الكلكامشي واضحة: كُلْ واشرب واعمل واجتنِ اللذة مع من تحب وداعب أطفالك الصغار،، ،،، إلخ.

لكنّ الحياة لن تتيح لك دوماً أن تكون منشغلاً بما يبعدُكَ عن التفكير بالحسّ المأساوي فيها. العوامل الصراعية في حياة الانسان تخفت مع السنوات، وهذا يقترن بالضرورة مع خفوت النمط الابيقوري في طلب اللذة واجتناب الالم.

هنا التساؤل الجوهري: هل الصورة الابيقورية والانشغال المزمنُ في حومة صراعات لانهائية هما الترياقان اللازمان لتخفيف الجانب المأساوي في حياة نعيشها بين ولادة وموت؟

قد يبدو الكائن الابيقوري المتمركز على طلب اللذات مثالاً علوياً مطلوباً لعبور خانق الحياة واشتراطاتها القاسية؛ لكنّ الخبرة المديدة علّمتنا أنّ اللذات أشكال وألوان: تكون اللذات في سنوات النشأة الاولى حسّية مباشرة يسعى فيها الانسان لنيل مكافأة فورية، ثمّ مع السنوات يتبدّلُ شكل اللذات: تصبح أكثر فأكثر ذهنية متعالية لاتكتفي بالحسية المباشرة. يبقى بعض البشر في سنوات أعمارهم المتقدّمة منغمسين في وحل اللذات الحسية حتى بأكثر أحياناً ممّا يفعل الشباب؛ لكنّ هؤلاء مسكونون بِـ (جوع قديم) ولم يجرّبوا متعة التخوم الذهنية العليا فظلّوا أسرى نداءاتهم البيولوجية البدائية. السياق الشائع أنّ الانسان يميل لأن يكون رواقياً في سنواته المتقدمة؛ أو لنقلْ بطريقة أكثر إحكاماً: الافضل للانسان أن يكون طيلة حياته خليطاً مختلف المقادير من عناصر أبيقورية ورواقية.

أما من جهة متطلبات الكائن الصراعي فإنّ عوامل الصراع ودوافعه تخفت مع السنوات. ثمّ أنّ كل صراع ينطوي على خسائر وخاسرين؛ فكيف لنا أن نتصوّر شكل الحياة وقد تحوّلت إلى لعبة خاسرين وفائزين؟ أليست أغلب معضلات عالمنا المعاصر ناشئة عن هذه اللعبة الصفرية القاتلة؟

يوجد عنصر آخر وهو – كما أحسبه – أهمّ من الاعتبارات الفلسفية والعملية. هل أنّ الانسان كائن عقلاني ستحضر أمامه الصورة كاملة كلّ حين؟ هل سيتعامل الانسان بطريقة عقلانية عندما يغادر أحد أحبائه الحياة؟ العقلنة الكاملة نظيرة الخواء الكامل. مامِنْ حياة تستحقُّ عبء عيشها لو كانت حياة معقلنة بكاملها. أريدُ القول أنّ الحياة نسيجُ معقّدٌ من العناصر المشتبكة، العقلانية وغير العقلانية، التي لايمكن التعامل معها بمنطق إختزالي يسعى لتسكين الارواح القلقة.

ربما من الافضل إعادة النظر في كلّ هذه المقاربة. نعم، كلٌّ منّا هو بطل حقيقي (حتى لو كانت هذه البطولة رغماً عنه) طالما ارتضى العيش في هذه الحياة ومواجهة كلّ متطلباتها القاسية؛ لكنْ بين الابطال الكُثر مَنْ هو أكثر بطولة من الآخرين. هو بطلٌ بالمواصفات النيتشوية (سوبرمان). من هو؟ هو كلُّ من يقبلُ العيش ويتلذذ به من غير حاجة إلى وجود مايشغله عن التفكير بالحسّ المأساوي للحياة الآيلة إلى موت مؤكّد. هو ليس في حاجة لأن يعيش حياة أوصى بها (وودي آلن) – حياة غارقة بالانشغالات التي تبعد الانسان عن التفكير بمآسي الحياة. هو ليس في حاجة لحياة شبيهة بالتربية العسكرية القاسية التي لاتترك في نهاية النهار وبعد جولة خشنة من التدريبات سوى أجساد هدّها التعب ولن يعاندها النوم بل سيأتيها مطواعاً متى ماوضعت رؤوسها على وسائد النوم.

بطولةُ العيش التي تتعالى على البطولة العادية هي أن نعرف مكامن المأساة في حياتنا ونقبلها، ولانسعى للتحايل أو الالتفاف عليها أو تناسيها بانشغالات حقيقية أو مصطنعة. ماذا يفعل أحدنا إذن؟ هل يجلس وحيداً يتفكّرُ في معضلة؟ ليس هذا حلاً مقبولاً فضلاً عن عدم جدواه وعدم اتفاقه مع حياة منتجة فاضلة.

يكمنُ الحلّ عندي في تفعيل عُدّتنا الميتافيزيقية، والميتافيزيقي هنا هو إشارةٌ إلى القدرة على صناعة قيمةٍ ما من غير دافع مادي مشخّص أو مرئي على الارض. إنّ كلّ قيمة ثمينة في الحياة هي – بحسب ماأرى – قيمة ميتافيزيقية. حتى العلماء وكبار صانعي التقنية والافكار إنما حققوا ماحققوه بفعل دوافع ميتافيزيقية. تلك فكرة إشكالية تستلزم الكثير من البحث؛ لكنني أكتفي بالقول أنهم كتبوا عن هذه الفكرة الثمينة في سيرهم الذاتية، وهذا أحد الاسباب التي تجعل قراءة السير الذاتية المهمّة (وهي في معظمها غير مترجمة) فعاليةً ثريةً ومنتجة.

كلٌّ منّا له عُدّة ميتافيزيقية خبيئة فيه، مثل بصمته الوراثية، وليس من سبيل لأن يعرف الفرد روعة هذه العدّة وقيمتها سوى بجهده الذاتي. هو وحده من يستطيع فكّ مغاليق هذه الشفرة، وحينها سينفتحُ أمامه عالمٌ مدهشٌ من الامكانيات تفوق كلّ توقعاته.

خلاصُك يكمنُ في ذاتك. قد تخدمك بعض الفلسفات وأنماط التفكير في تحسين نمط عيشك؛ لكنّ خلاصك وطيب عيشك وطرد أشباح الخوف من أن تتسلّل إلى روحك هي أفعالٌ أنت تصنعها، ولن يتبرّع أحد بأدائها بدلاً عنك.

الحياة جميلة وتليق بكائن بطل يعرف أنّ الحياة البشرية، رغم كلّ برهاتها الجميلة، مصنوعةٌ من مادة المأساة؛ لكنها مع ذلك تستحقُّ دوماً أن نعيشها بشرف وكرامة وترفّع عن الخوف والخذلان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram