بلقيس شرارة
في مثل هذا اليوم 10 نيسان 2020، أي قبل ثلاثة اعوام ودّع رفعة الحياة، عندما كان العالم يأن من مرض الكوفيد، حيث قُّدر الذين ماتوا بسببه في العالم بعدة ملايين.
في مثل هذه المحنة، عندما عاش العالم سجين هذا المرض الخبيث، لم يبقى أمامي إلا أن أقضي وقتي بالكتابة عنك يا رفعة، وكانت رفقتك بلسماً لي، حيث عشتُ معك من خلال كتاباتك عن نشأتك ودراستك في همرسمث، والعودة إلى بغداد ودورك الفعّال في إيجاد عمارة لها طابع محلي عالمي، حيث تطور مفهومك للعمارة " كظاهرة اجتماعية ذات كيان مادي وهي حصيلة التناقض الجدلي بين المطلب الاجتماعي من جهة والتقنية المعاصرة له من جهة أخرى"، لذا فإن "العمارة جزء مهم من التفكير الاجتماعي، وفي الوقت نفسه مادة حقيقية"، وصدر الكتاب بعد عام، وشعرت بالراحة، فقد عرفت في هذا الكتاب من هو رفعة كشخص وما أنجزه كمعمار.
وفي الوقت نفسه قام شقيقك يقظان في وضع مصطبة باسمك في الحديقة التي كنا نتمشى بها سوية، ونجلس على إحدى مصاطبها، قريبة من المطعم الذي كنا نتغدى فيه، وتطلب اكلتك المفضلة السمك. والآن كلما أمر في حديقة كنزبري، احاول ان اجلس على مصطبتك، واتأمل البجع والوز العائم في نهر التايمس، واتذكر الأيام الجميلة التي قضيناها معاً، اذ كانت حياتنا حافلة بالمتعة والانتاج، لكني في كثير من الأحيان أرفع رأسي بعد هذا التأمل الطويل، وإذا بي وحدي، ليس هنالك يد تأخذ بيدي، ولا اشاهد إلا اسمك المحفور على لوح المصطبة واتنهد واقرأ: "ذكرى المحبة لرفعة الجادرجي 1926-2020 المعمار والكاتب، الذي أحب هذا الجزء الممتد من النهر".
ما زلتُ مواظبة على حضور تقديم "جائزة العمارة لخريجي الجامعات اللبنانية"، التي اسستها منذ ثلاثة وعشرون عاماً في لبنان، وما زال المشرفون على الجائزة ملتزمين بالنهج الذي وضعته لهذه الجائزة. وهي اعطاء الجائزة لتصميم الخريج الذي "يتعاطف مع هموم الآخر بحيث تتحول العمارة، من خلاله الى اداة فعالة في تحقيق الوئام والتماسك بين الجماعة والمجتمع".
كما قُدم باسمك هذا العام جائزة "تميز" التي عقدت بمناسبة مرور عشرة سنوات على تأسيسها، في مدينة "مسقط"، وقد طُلب مني ان اقدم الجائزة، وكم كنتُ اتمنى ان تكون انتَ الذي يقوم بتقديم هذه الجائزة.
لقد رحلتْ عنا يارفعة في موسم الربيع، وهو الفصل الذي تزهو فيه النباتات وتتفتح الأوراد برائحتها المختلفة. والان عادت الطبيعة الى ما كانت عليه عندما رحلت عنا منذ ثلاثة اعوام، فأشجار حديقة الدار مكللة بالاوراد، وحتى الأرض تفتحت بألاوراد المختلفة بالوانها في الحديقة التي كنا نتمشى بها معاً.
لكن بالرغم من موسم الربيع المليء بالتفاؤل، أحس أحياناً برتابة الأيام وثقلها، فليس هنالك من صديق أو جار ليكسر هذه الرتابة في الحياة اليومية. فعدد كبير من اصدقانا رحلوا عن هذه الدينا كما رحلت أنت، والاحياء أصبحوا قلة بمرور العمر، والانكيز الذين اعيش بينهم، هم قوم طيبون، يساعدوك عندما تحتاج الى المساعدة، لكنهم في جميع الحالات لا يتدخلون او يسألون عنك بالرغم من انك جارهم منذ ثلاثين عاماً.
ولذا أجد نفسي من أنني اعيش من يوم إلى يوم، فقد اغلقت جميع الكوى المضيئة امامي، لكني بالرغم من ذلك فاني احاول التخلص من هذه الرتابة، بزيارة معرض لرسام مهم، أو حفلة موسيقية لموسيقار، والبارحة حضرتُ حفلة موسيقة في "قاعة الاحتفالات الملكية" واستمعت لقطعتك الموسيقية المفضلة، (كارمينا بورنا/ Carmina Burana) للموسيقار ألالماني (كارل أورف/ Carl Orff)، كنتَ معي طيلة الوقت، إذ تذكرتُ الأيام الغابرة في دارنا في بغداد، عندما ينطفئ اليوم بعد منتصف الليل ويبدأ يوم آخر، فتضع هذه القطعة الموسيقية، ويبدأ الأصدقاء في ترك الدار، إذ كانت هذه القطعة اعلان من ان الوقت حان للوداع.
كانت وما زالت المطالعة والبحث والكتابة الوسيلة والنافذة التي اطل من خلالها على العالم، و وجدت من تجربتي أن الكتابة بلسم يعيني على الاستمرار في كسر رتابة الحياة.
وأعلم اننا نعيش هذه الحياة مرة واحدة، وهذا ما كنت تؤمن به يا رفعة، وكلما يمّر يوم فإنه يقربنا أكثر للموت الذي هو نهاية البشرية، ونصبح اشباحاً في ذاكرة المقربين لنا، الذين بدورهم يصبحون ذات يوم اشباحاً في ذاكرة الآخرين، وهذه سُنة الحياة.
جميع التعليقات 1
اوس خلف
مقال جميل رغم ما يكتنفه من الم