حيدر المحسن
هل كان في وَسعِنا أن نُحِبَّ أقلَّ؟
- محمود درويش -
زردةٌ بعد زردةٍ، بعد أخرى. لم تبقَ زردةٌ في الكون لم تُختَبر، قبل أن يتكوّن ما ندعوه أحمرَ. شعّت العينُ بالسّعادة وهي تراه، وامتلأت لذّةً، فتحرّكَ الحاجب. معانٍ قويّةٌ في تأويله، وعديدةٌ كأنها لا تُحصى. نشوةٌ تصير لدى ناظريه، تكاد تكونُ وجدا. كما أن ما من باصرةٍ، حتى التي أتلفتها العماوةُ والحماقة والجهل، تتوهُ عن الأحمر، أو تضيّع أثره.
في المقال الذي نشرته صحيفة القدس العربي في الجمعة الماضية: "الأحمر في سيرته"، وكان يتحدّث عن الدّماء التي سالت في بلدي بسبب الحروب، اختار مُخرج الصّفحة لوحةً فيها الأعلام العراقيّة مرفوعة في السّماء، والأذرع تلوّح إلى الأعلى. اختيارٌ بارعٌ في الحقيقة، أعطى ما ذكرته من حقائق بُعدا رمزيّا، لأن الأحمر يرتفع فوق الهامات في الصّورة مثل أمواج كاسرة من الدّماء عمّت بلادَنا منذ عقود عديدة. يشترك مع العراق في هيئة هذا العلم كلّ من اليمن ومصر وسوريا، مستطيل أسود في الأسفل وواحدٌ أحمر في الأعلى، مع شريط أبيض في الوسط يختلف الرمز فيه تبعا للبلد. كأنّ الأحمر في الأعلام الأربعة لم يكن في مكانه، ولهذا صار ما يرمز إليه في هذه البلدان مريضا للغاية، فهو يحتضر.
رايةٌ فيها الأحمرُ يكون له فيها سِحر النّار التي تؤنس النّفس وتنقّيها من شرورها. كلّ رايةٍ نار. كلّ نارٍ رايةٌ.
في العلم التّونسي والمغربي مساحة شاسعة للأحمر. إنها كُلّه، ويتوسّطه ما يُضيفُ إلى الشّعلة التي فيه ارتفاعا وجلالا وأُبّهة. العلم الآخر الذي يخطفُ البصر لدولة البحرين: أحمرُ يشتعلُ ويشتعلُ ويظلّ ويظلّ... لبنان هو الآخر أعطى للنّار شكلا أنيقا: مستطيلان أحمران في الأعلى والأسفل وفي الوسط شريط أبيض فيه شجرة أرْز. بينما غابَ لون الشّفق من أعلام ثلاثة دول: المملكة العربيّة السعودية وقطر والصومال، بالإضافة إلى إسرائيل.
ما يقوله الأحمرُ حين يسيل يفسّرُ ما يقولهُ قلبي، وما يرتفع به إلى الأعالي وما يبهضه، ما يطلقه وما يكبّله، ولو كان أحمرُ ذبابةٍ، فهذه لها أحمرها الذي لن تتنازل عنه ولو اُعطيتْ أبيضَ الكون وأخضرَه، مع ما في السّماء. في الصّفحات الأخيرة من رواية (الجريمة والعقاب) يجلس راسكولينكوف في باحة السّجن، وكانت تزوره سونيا، حبيبته. كان الشّابّ رهينَ المحبسين، السّجن وأفكاره المثقلة بالعذاب لأنّه ارتكب هذا الجرم بحقّ العجوز، وتمرّ عليه في تلك الوهلة ذبابة، (أو عصفور، لا يوجد فرق بين الاثنين) تقف على يده، ثم تنتقل إلى شَعر سونيا، ويتعرّف راسكولينكوف عندها على طعم الحرّيّة المحروم منها بصورة هذه الذّبابة، أو هذا العصفور.
الفجرُ في الشّتاء ورديّ، وفي الصّيف أحمر. كما أنّه ليس سهلاً أن تعيشَ مع الورديّ (أحمرُ أقلُّ)، أينما حللتُما، أنتَ وحبيبتُك، موسيقى الأرض تُعزفُ لكما، وألحانُ السّماء.
علم اليابان هو الأجمل، وفيه شمس حمراء تتوسّط القماشة البيضاء. هل لي أن أرسم علم بلادي؟ أحمرَ ضارِيًا (أحمر أكثرُ) تتوسطّه نخلة خضراء. ربما كنتُ أجهلُ هذا الأحمر، وكيف هي كُثرته وطبيعته، رغم أني رأيته أكثر من مرّةٍ عن كثبٍ في بلادي، من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، وشممتُ عطرَه وذُقْتُ ثمالته. هو لون العراق الحقيقي، والنخلةُ أمُّهُ وأبوه.
يَذْبُلُ الهواءُ، ونَرْفَعُ في وجهه رايةً.
قرأتُ رواية دوستويفسكي وأنا في المتوسّطة، وأعدتها في الثّمانينات، وبقي لي منها مشهد البطل في الأخير، تزوره سونيا في السّجن، وظلّ ثابتا في نظري طوال هذا الزّمن ذبابة تطير في الهواء في تلك السّاعة، ويرى راسكولينكوف في جرمها الصّغير واللّطيف شكل حريّته. ثم عدتُ إلى الكتاب ساعةَ إعداد هذا المقال، واكتشفتُ أن عصفورا حضر اللّقاء بين العاشقين. ولكن لا يوجد فرق في علم الشِّعر بين العصفور والذّبابة. أليس كذلك؟