TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > عندما يصبح النبوغ تهمة عربية؟

عندما يصبح النبوغ تهمة عربية؟

نشر في: 18 إبريل, 2023: 12:27 ص

عبد الكريم البليخ

"الأدمغة الهاربة"، الامكانات المبدَّدة".. الخ، أوصاف تطلق على بعض نجباء الأمة في الفيزياء والذرّة والكيمياء والرياضيّات.. الخ، هذه العناصر العربية المتوهجة التي اجتذبها الخارج فلبّت نداءَه، وغابت في آفاقه، وانصهرت في نسيجه، وأصبحت جزءاً من حضارته وغده.

لو أن أوطانهم حققت المستوى المنشود من الرقي، وبلغت كفايتها من التطور، وأقامت المصانع وقواعد التسليح، ووفرت الآلات والاحتياجات التموينية والسلعية الضرورية والكمالية، واستغلت موارد طاقتها ووظفتها في مواقعها الصحيحة، وبالأوجه التي تضاعف ريعها، وتحفظ حقوقها، وتستثمر ثرواتها.. لو حدث كل ذلك، لكان تسرّب بعض العقول العربية إلى تلك الدول الأجنبية أخف وقعاً، وأقل صدمة، ولكن أن يكون حال العرب على ما هو عليه من التبعية والتخلّف، وأن تستعمر أسواقها من قبل تلك الدول الأجنبية وتهدّد انتاجها الوطني بالفشل، وتنافسها في عقر دارها، وتدفع اقتصادها إلى التقوّض والانهيار، وأن تكون وهي ـ الغنية بثرواتها وامكاناتها ومقدّراتها وحضارتها ـ مجرد أرض بكر تتلاعب بها الموازين العالمية.. فهنا موضع الاعتراض!

هل تُلام "الأدمغة العربية" في تشريقها نحو الغرب؟ وهل يمكن أن تطلق صفة "الهجرة" على هذه الرحلات؟ لا.. بل هي "طرد" و"تهجير" دفعوا إليها دفعاً بالوسائل الودية والقهرية وربما الارهابية!

لقد أصبح النبوغ تهمة عربية يُطارد من أجلها العلماء في مختبراتهم، ويساءل فيها المخترعون في أبحاثهم، وتصادر طلاقة المفكرين في دراساتهم، وتحوّل وجودهم إلى موضع شك وريبة البيروقراطية والنظم المتخلفة، والأنماط التشويهية التي تحارب التطور وتعتبره ثورة ضد مصالحها، و إنقلاباً يمس قاعدة بقائها.

عندما يهرب المفكر العربي إلى الغرب فإنه يلجأ إلى الصومعة التي تحتوي نبوغه، وتدرك مدى قيمته، والتي تهيء له الحقل الذي يتفرغ فيه لدراساته، ولا ينشغل عنها بأمور تافهة تنفرد باهتمام من يبقى في الوطن كالمناصب، والصراع الوظيفي، والبحث عن النفوذ، والمكاسب الشخصية، وركامات هائلة من الروتين والجمود والبلادة والتخلف، والمعاملات المحنطة بسوء الأداء، وغياب التخطيط، وضبابية الرؤية، أو الدخول في معارك خاسرة لا تجيد التعامل مع بقايا المعامل والمختبرات، التي إما أن يكون الغبار قد علا أجهزتها لعدم وجود العمالة الفنية المختصة لتشغيلها، وإما أن عدم الصيانة واللا إدراك لقيمتها وما تمثله من بعد علمي سلَّمها لبعض الأيدي اللامسؤولة التي وأدت ما كان فيها من نبض، وإما أن عدم اكتمالها أو ضعف الميزانية المخصصة لها، أو عدم الاقتناع بأهمية تجهيزها أدى إلى تشميعها وتوقيفها عن العمل، ولو كان الاهتمام بالبحث العلمي وارداً.. فهل سيكون مكانه في آخر قائمة اهتمامات مؤسسات الوطن الكبير؟

مهما كانت فداحة هذه الهجرة على الجسد العربي المشروخ، فقد أصبحت الصمام الذي ينفس قليلاً عن التناقضات التي يرزح تحتها، ويضجّ من قسوتها ورعونتها مبدعوه وصانعو مستقبله العلمي المختنق تحت وطأة اللامبالاة الرسمية والشعبية!

لقد أصبحت مكانة المفكر أو المخترع أقل قيمة اجتماعياً واقتصادياً من المستوى الذي ينعم به التاجر أو الحرفي أو الانتهازي أو أي منضوٍ لأية مهنة تدرّ ربحاً مادياً أكثر، ينال بها الحظوة والأهمية والسطوة التي يحرم منها أي موهوب علمياً ليواجه ـ بدلاً من ذلك ـ الازدراء الاجتماعي، وعدم الفهم والاستيعاب للعمل الخلاّق الذي يسعى لتحقيقه، وليصارع عدم نضج العقلية البيئية التي لا تدرك مدى الاسهام الذي سيضيفه هذا العالم إلى حياتها، ويغيّر مصيرها ويرفعها إلى ما يُزكي اقتصادها، ويدعم قوتها بين الأمم الأخرى!!.

فإذا كان اللا احساس بمحاولات النخبة الصاعدة لتغيير الواقع من حولها هو المسيطر والبارز، وإذا كانت المنغصات تنبئ بتعقد الأمور وعرقلتها وتأخير همتها.. فمن الأفضل إذن أن تشرع أجنحتها وتفر إلى البعيد.. إلى الملاذ الذي يكفل لها الأمان والامكانيات والدعم المعنوي حتى ولو كان غريباً وموحشاً ورطباً.. فبيت العالم هو مختبره، ورضاؤه يكون في معانقته لأدواته وأقماعه، وضمان انهماكه في تركيز وسلام على معالجة نظرياته ومعادلاته.

إذا ضجّ الوطن بهذا العقوق فهو مدعو لولوج معركة التغيير، والانتصار للأطروحات المستقبلية التي تدحر التخلّف والنظرة الضيقة التي تبقي الوطن مكبلاً بالقيود الصدئة لسنوات قادمة جديدة من العبودية والتزعزع والإنشطار.

عندما يكون للعقل العربي كرامته، وتكفل له الضمانات التي تحفظ واقعه ومستقبله، وتعامله كمبدع فاعل له دفقاته المضيئة في كيان أمته، حينها فقط ستتشبث الحمائم الفزعة بجذورها، ولن تنطلق أبداً إلى البعيد.

إنَّ وجودهم في تلك الديار الغريبة معناه انحيازهم للإبداع الإنســـــــاني بمعناه الشامل، والتفرّغ لأبحاثهم واكتشافاتهم، وقد توفرت لديهم الحوافز المعنوية والمادية والمناخ العلمي والفكري الذي يحفظ نبوغهم، ويعترف بفضله ويهبه ما يستحقه من رعاية وإجلال.

تبقى أم تُهاجر..؟ تلك المعادلة التي لن يستطيع أن يحل رموزها سوى الوطن الكبير المشتت، وهو يلعق جراحه ويرقب بأسى تطاحن الأشقاء مخلّفين وراءَهم أهم ما يجب الالتفات إليه.. نوابغ الوطن ومستقبله العلمي، وهذا ما تشكو حاله أغلب البلدان العربية التي أضحت اليوم تعاني من هجرة فظيعة، وبصورة خاصة بالنسبة لأصحاب الشهادات العلمية المتفردّة، ومثالها- وفي مقدمتها - الطب، وهذا ما يعني حاجة تلك البلدان إلى الأيدي الخبيرة، والتي لا يمكن بحال إحلال محلها عناصر جديدة، لا سيما أنها تفتقد للخبرة.. وهذا الاجراء الذي بدأنا نتلمسه سببه ضعف القدرة الشرائية على تلبية الحاجة التي أصبحت كثيرة وكثيرة جداً، وتحقيقها ليس بالأمر الهين ما يدفع أصحاب الشهادات العالية إلى السفر والهروب خارج أوطانها للفرار بريشها، والاستقرار في بلاد أكثر أماناً ودخلاً مالياً، ما يحقق لها احتياجاتها ومطالبها التي تبحث عنها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

 علي حسين إذن، وبوضوحٍ شديدٍ، ومن غير لفٍّ أو دوران، لا تنتظروا إصلاحات ديمقراطية ولا حلاً للأزمات السياسية التي ما أن تنتهي واحدة حتى تحاصرنا واحدة جديدة ، ولا تطمئنوا لأن الإعلام يزعج...
علي حسين

قناطر: السَّرّاجي: القرية والنهر والجسر

طالب عبد العزيز " ثمة قليل من الاغريق في سان بطرسبورغ "جوزيف برودسكيكثيراً ما أسأل نفسي: أيمكن أنْ يكون الشاعر مؤرخاً، أو كاتباً لسيرة مدينته؟ فأجيبُ: أنْ نعمْ. ولعلي الى الثانية أقربَ، فأنا ممسوس...
طالب عبد العزيز

في طبيعة المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية ومهامه

د. فالح الحمـراني تطرح قضية تفعيل المجتمع المدني في العراق اليوم نفسها بصورة حادة، لا سيما على خلفية تقصير المؤسسات المنتخبة وأجهزة الدولة في أداء دورها المطلوب حتى في إطار القوانين المتعارف عليها في...
د. فالح الحمراني

الاقتصاد الهندي من التخلف إلى القوة الاقتصادية

موهيت أناند ترجمة: عدوية الهلالي منذ أن بدأت الإصلاحات الاقتصادية في عام 1991، عندما تخلت عن نموذجها الاقتصادي الحمائي والاشتراكي، أصبحت الهند ثالث أكبر اقتصاد (بعد الصين والولايات المتحدة) من حيث الناتج المحلي الإجمالي.،...
موهيت أناند
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram