TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الهويَّة الوطنيَّة العراقيَّة .. عَقلَنَة الهويَّات والتقاليد البنائيَّة

الهويَّة الوطنيَّة العراقيَّة .. عَقلَنَة الهويَّات والتقاليد البنائيَّة

نشر في: 18 إبريل, 2023: 11:22 م

د. لؤي خزعل جبر

الهويَّة الوطنيَّة هويَّة اجتماعيَّة: العضويَّة المُدرَكَة في جماعَةٍ تأويليَّة مُتخيَّلَة، وتفضيل تلك الجماعَة لما تُقدمه من تقدير للذات وتحققه من حاجاتٍ أساسيَّة، وبناءِ العلاقات والأفعال الفرديَّة والجماعيَّة على أساسِ تلك العضويَّة.

تتشكَّل نتيجة العمليَّات الاجتماعيَّة: التصنيفات والمقايسات، والتجارِب الجمعيَّة المُشتَرَكَة. وتتفعَّل نتيجَة المحددات الواقعيَّة: العلاقات الديناميَّة – التفاعليَّة أو التنافسيَّة - مع الهويَّات الممنوحَة والمُكتَسَبَة الأخرى، ضمن سياقٍ الظروف السياسيَّة والاقتصاديَّة.

الهويَّة الوطنيَّة ليسَت ايجابيَّة بالمُطلَق، فعندما تكون قسريَّة قامِعَة، مبنيَّة على ممارسات اندماجيَّة إكراهيَّة للجماعات الداخليَّة وتصورات تمجيديَّة متطرفة، تنتِج عواقِب تدميريَّة، بخلافِ ما لو كانَت عقلانيَّة، مبنيَّة على ضرورات واقعيَّة ومعتقدات إنسانيَّة.

الهويَّة الوطنيَّة ليست نتاج الدولَة بالضرورَة، فهي بنية وثقافَة اجتماعيَّة سياسيَّة، وقد تتحرَّك بالضِدِ من سياسات الدولَة، إذ قد توجَد بينما تعمَل الدولَة – بقصدٍ أو بدونَه – على أن لا توجَد، وقد لا توجَد بينما تعمَل الدولَة على أن توجَد، فالدولَة تُساهِم – سلباً أو إيجاباً – ببناءِ الهويَّة الوطنيَّة، إلا أنها ليست المُحدد النهائي.

* * *

مُعضِلَة الهويَّة الوطنيَّة العراقيَّة: الهويَّة الوطنيَّة العراقيَّة مُعضِلَةٌ في الدراسات الأكاديميَّة، نتيجَةَ اختلافِ المُقاربات بين التخصُّصات وداخِل التخصُّصات من جِهَة، والافتراضات والحمولات المُسبَقَة للباحثين – الخارجيين والداخليين - من جِهَةٍ أخرى. ولذلك امتدَّت على مُتصل: اللامجتمع واللاهويَّة (ليس هُناك مُجتمع عراقي، والهويَّة الوطنيَّة مُستحيلَة) والمجتمع والهويَّة (هناكَ مُجتمع عراقي عريق، وهويَّة وطنيَّة راسِخَة)، وكِلا هذينِ الطرفين جوهرانيين، لا تاريخيين، والهويَّةُ الوطنيَّة بنية اجتماعيَّة ديناميَّة، ليست خاضِعَة لحتميَّات جوهرانيَّة.

هُناك ثلاثَة مستوياتٍ للهويَّة الوطنيَّة: الوجود والقوَّة والفاعليَّة، والعراقيَّةُ موجودة – لا أقل مُنذُ تأسيس الدولَة العراقيَّة – بوجود الجمَاعَة العامَّة، والتجارب – السلبيَّة والايجابيَّة – الهائِلَة العامَة، وقويَّة بحسب جُملَة من المؤشرات الكميَّة والنوعيَّة، التي تؤكد – بوضوحٍ – اعتزاز العراقي بعراقيَّته، على الرغم من كل الخِطابات النافيَة، والممارسات والسياقات المُنفرة، أما الفاعليَّة فجدليَّة ضمن صراع الهويات، الانبثاقات والانكسارات، التفاعلات والتقاطعات، في ارتباطٍ بسؤالٍ أساس: ما الهويَّة التي تحفَظ المكانة وتحقق العدالَة؟ والثورة التشرينيَّة – كلحظةٍ تاريخيَّة فارِقَة – بينت عمق الفاعليَّة، وحوَّلَت تلك الفاعليَّة إلى هيمنة ثقافيَّة.

الدولَة العراقيَّة ليس فقط لم تنجَح في بناءِ هويَّة وطنيَّة، كما تُجمِع على ذلك الدراسات، بل لَم تعمَل على ذلك بطريقَةٍ صحيحًةٍ أو حقيقيَّة، كما أكَّدت جُملَة من الدراسات، ولعلَّ ذلك يرجِعُ إلى خوف عميقٍ – مُضمَر، لا مُعلَن – من الهويَّة الوطنيَّة، تجلَّى في تبني خطابات واعتمادِ ممارسات قوَّت – بشكلٍ مُباشر وغير مُباشِر – الهويَّات اللاوطنيَّة، الفرعيَّة والعابِرَة، على حساب الهويَّة الوطنيَّة، ولكنَّ الهويَّة الوطنيَّة واصَلَت المقاوَمَة، مما يؤكد تقدُّم "المُجتمَع" على "الدولَة".

* * *

عقلَنَة الهويَّات والتقاليد البنائيَّة: ليست المُشكلة – برأيي – مُشكلة بناء هويَّة وطنيَّة عراقيَّة، فهي منجزة إلى حد كبيرٍ، وإن لم تكُن منجزة فعلى الأقل مقومات الإنجازِ متوفرة بالكامِل، وإنما في طبيعَة ذلك البِناء وسياقاتِهِ، في بناءِ هويَّة ايجابيَّة، وصيانَةِ تلك الهويَّة من التصدُّعات المحيطيَّة الناجِمَة عن تصادُم الهويَّات المُتنافِسَة.

يجب بناء هويَّة عاقِلَة: هوية اجتماعيَّة مُحددة ومنفتحة، تعترف وتغتني بالتنوعات، متصلة بالهويَّات العابرة والفرعيَّة والإنسانيَّة، فالهويَّة قائِمَة على الآخريَّة، سواء العدائيَّة أو التواصليَّة، والعاقِلَة مرتبطة بالآخريَّة التواصليَّة، غير الخائِفَة من - أو المُعادية - للهويَّات الأخرى، بل المُحتفيَة بتلك الهويَّات ضمن سياق "الوَطَن" و"الإنسان".

وظيفَة النُخب الثقافيَّة والدولَة تأسيس التقاليد البنائيَّة لتلك الهويَّة، فالنُخَب الثقافيَّة (العلميَّة والأدبيَّة) هي دِعامَة خطاب الهويَّات العاقِلَة، ويُفتَرض بالدولَة (السلطات التشريعيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة) أن تكون حاميَة – ومُجسدة - لذلك الخِطاب.

•النِظامُ التعليمي – كمؤسسة دولتيَّة – يُساهِم في بناءِ هويَّة وطنيَّة وخلق سرديَّات وطنيَّة وتحديد القيم والأهداف الوطنيَّة والمعايير السلوكيَّة. ويُميز الباحثون بين التعليم التمجيدي الوطني patriotic education (زيادة شعور الطلبة بالفخر والتقدير لبلدهم ومؤسساته ورموزه ذات العلاقة، فيمجد التاريخ والحاضر الوطني، ويجعل من الدولة قيمة نهائيَّة) والتعليم النقدي critical education (لا يُمجد ويؤسطر تاريخ الدولة، ويقدم القيم الديمقراطيَّة والمُجتمع المدني على الدولَة، ويعدُّ الإنسان قيمة نهائيَّة)، ولتشييد هويَّة عاقِلَة وتقاليد بنائيَّة يجب تطوير التعليم الوطني النقدي، المُشتغل ضمن اشتراطات العقليَّة النقديَّة على تكريس التقدير للبلد ومؤسساته وجماعاته. وهذا التعليم يتطلَّب فضائين: عمومي وتربوي.

في العمومي:

1. ترصين البنية السياسيَّة الديمقراطيَّة. فالدولَة الديمقراطيَّة الراسِخَة تحقق المُشارَكَة الفاعِلَة، وتُعمق الفهم المُستنير، وتحفَظ الحقوق والحُريات، وتُقدم أنموذجاً مُحترماً للذات الوطنيَّة أمامَ العالَم، وذلك ينتشل المواطنين من حالَة الإحباط الديمقراطي والاغتراب السياسي المُطبق، ويجعَلهم يرتبطون بالدولَة، ويزيدُ من اعتزازهم ببلدهم ونظامِهِم.

2.تحسين الحياة الاقتصاديَّة. تلبية الحاجات الأساسيَّة، وتوفير معيشة كريمة، وضمانٌ اجتماعي حقيقي، ومحاربة الفساد الهائِل والمُستشري، يُحرر الناس من ضغط الشعور المؤلم بالحرمان النسبي، الذي يجعلهم مشغولين بمتطلبات البقاء، ويغرس فيهم انفعالات سلبيَّة، قد تنعكس في استجاباتٍ سلوكيَّة تهدد المجتمع والدولَة، بينما تجعلهم العدالَة الاجتماعية مندمجين – على نحو ايجابي – في الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة.

3. إشاعَة الخطابات الفكريَّة والاجتماعيَّة العقلانيَّة. الحريَّة الفكريَّة، وحماية ودعم النُخب المعرفيَّة والأدبيَّة العميقَة، وترصين الدَرس والبحث الأكاديميين، في الأكاديميات ومراكز البحوث، وإيقاف التهديدات والسياقات الاستنزافيَّة، يساهِمُ في تكريس الخطابات العقلانيَّة بَدلَ تسيُّد الطروحات التبسيطيَّة والشعبويَّة المُحمَّلَة بالجهل والكراهيَة.

4. تحديد الرموز الوطنيَّة. لا يُعقَل أن لا يمتلِك بلدٌ كالعراق خصوصيَّتهُ الثقافيَّة في الرموز الدولتيَّة الأساسيَّة، من قبيل التسمية "الميزوبوتاميَّة" Mesopotamia، والعَلَم المُعبر عن الخصوصيَّة، والنشيد الوطني المُنتَج مِن داخِل بلدِ الشعر والموسيقى، والمناسبات الوطنيَّة الجمعيَّة، فيجب تأسيس ذلك بطريقة علميَّة، وإيقاف التحديدات الارتجاليَّة، لاسيما في الاحتفالات والعُطل الرسميَّة.

5.تطوير الذاكرة التاريخيَّة العراقيَّة الإنسانيَّة. تأسيس مشروع لتركيز الذاكرة التاريخيَّة العراقيَّة الوطنيَّة في الخطابات الإعلاميَّة والمناهج الدراسيَّة والممارسات الشعبيَّة والمُنتَجات الثقافيَّة، وصياغة "قانون الذاكرة التاريخية الإنسانية"، لتشجيع الدراسات النقديَّة للتاريخ، والاهتمام بأماكن الذاكرة، ومنع التلاعب بالذاكرة التاريخيَّة عبر إقصاء تاريخ الجماعات المتنوعة وتدمير الأماكن التاريخيَّة وإشاعة الخطابات التعصبيَّة، وتحديد جملة من الاعترافات والاعتذارات التاريخيَّة.

في التربوي:

1. توفير البنية التحتيَّة المدرسيَّة. توفر المدارس والمدارِس المُحتَرَمَة، بأبنية ومستلزمات لائقة، وكوادر مؤهلة وكافيَة، يُشعِر الطالِب – والأُستاذ - بأنَّهُ ينتمي لدولَةٍ مُحترمَة ومُهتمَّة به. فنقص المدارس، يقود إلى حرمان من الدراسة و/أو اكتظاظات خانقة، ورثاثَة المتوفرة، كالقديمة المُتهالكة والطينيَّة والكرفانيَّة، امتهانٌ للدولَة قبل أن تكون امتهان لكرامة الإنسان والتعليم.

2.تأسيس مجالٍ قائِمٍ على التفكير النقدي، منهجاً وتدريساً. فالتفكير غير النقدي يُسهل تقبل الأفكار الهدميَّة، ويُشيع خطابات الكراهيَّة. والتعليم الحديث تعليمُ تفكير لا تلقينُ نصوص، ومركز على التعلُّم لا على الشهادَة المجَّانيَّة، وهو لا يرتبطُ بكميَّة المادَّة الدراسيَّة، التي هي غير معقولَة في مراحل أوليَّة، وإنما بنوعيَّة المادَّة، وبطريقة التدريس. فيجب أن تخضَع المناهِج – ولا سيما الاجتماعيَّة - لنقاشات عميقَة يشتركُ فيها المتخصصون الدقيقون من مختلف حقول المعرفة، لا أن تُسنَد للجانٍ محدودَة، واجتهادات مُبتسرَة.

3.تخصيص الفضاء المدرسي للخطابات والرموز الوطنيَّة، وإبعاده عن الطائفيَّة والعشائريَّة. فالسياسات المدرسيَّة الحاليَّة – بحسب الملاحظات – قائِمة على تفضيلات شخصيَّة غير علميَّة محليَّة، إذ تجتهد كل منطقة أو كل مدرسة أو كل معلم ومعلمة بابتكار وتطبيق ممارساتٍ غير مقبولَة بالمنطِق الدولَتي، كالطقوس الدينيَّة، والأعراف العشائريَّة، في الصفوف والساحات، مما يُكرس عند الطلبة، ولاسيما الصِغار رؤية طائفيَّة أو عشائريَّة مختلفة أو مضادَّة للرؤية الوطنيَّة. فيجب توجيه المدارس كافَّة بمنع هذه الممارسات، التي هي مُحترمَة في فضاءٍ آخر، ولكن لا تناسب الفضاء المدرسي.

3.تأسيس مادَّة بعنوان "المُجتمع العراقي"، تتضمَّن تعريفاً دقيقاً وعميقاً وتواصلياً بكل الجماعات الاجتماعيَّة في العراق، الإثنيَّة والدينيَّة. تنطلِق من فكرة خلق هويَّة تواصليَّة، حيث يعرف الجميعُ الجميعَ، بثقافاتهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتاريخهم، بمنجزاتهم ورموزهم الكبيرة التي رفدت العراق، وبما تعرضوا له من مظالِم، وبما يستحقونه من عيشٍ كريم. ويُشارِك في كتابة هذهِ المادة المتخصصون بالتنوع العراقي، والمتخصصون في العلوم الاجتماعيَّة، بعد دراسات ومعايشات لكل تلك الثقافات.

5.تطوير وتكريم المُعلم. المعلم العراقي بحاجةٍ إلى تطوير، من دراسته الأكاديميَّة إلى دوراته المهنيَّة، ليكون مؤهلاً للتعليم النقدي العميق، ويمثل أنموذجاً مُحترماً ومُلهماً، ولذلك من الضروري تشريع "قانون حماية المُعلم"، لمنعِ انتهاكِهِ المادي والرمزي، إذ يُلاحَظ تعرض المعلمين لتهديدات وإساءات من جهاتٍ خارجيَّة، لضعفِهِ وهيمنة الثقافات الشعبويَّة، وكذلك انسلالِ غير المؤهلين للمِهنَة.

•ورقة مقدَّمة إلى المؤتمر العلمي للمستشاريَّة الثقافيَّة لرئيس الوزراء: حوارات في بناء الدولة والأمة: نحو رؤية لصياغة هوية وطنية راسخة. نيسان 2023.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

 علي حسين إذن، وبوضوحٍ شديدٍ، ومن غير لفٍّ أو دوران، لا تنتظروا إصلاحات ديمقراطية ولا حلاً للأزمات السياسية التي ما أن تنتهي واحدة حتى تحاصرنا واحدة جديدة ، ولا تطمئنوا لأن الإعلام يزعج...
علي حسين

قناطر: السَّرّاجي: القرية والنهر والجسر

طالب عبد العزيز " ثمة قليل من الاغريق في سان بطرسبورغ "جوزيف برودسكيكثيراً ما أسأل نفسي: أيمكن أنْ يكون الشاعر مؤرخاً، أو كاتباً لسيرة مدينته؟ فأجيبُ: أنْ نعمْ. ولعلي الى الثانية أقربَ، فأنا ممسوس...
طالب عبد العزيز

في طبيعة المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية ومهامه

د. فالح الحمـراني تطرح قضية تفعيل المجتمع المدني في العراق اليوم نفسها بصورة حادة، لا سيما على خلفية تقصير المؤسسات المنتخبة وأجهزة الدولة في أداء دورها المطلوب حتى في إطار القوانين المتعارف عليها في...
د. فالح الحمراني

الاقتصاد الهندي من التخلف إلى القوة الاقتصادية

موهيت أناند ترجمة: عدوية الهلالي منذ أن بدأت الإصلاحات الاقتصادية في عام 1991، عندما تخلت عن نموذجها الاقتصادي الحمائي والاشتراكي، أصبحت الهند ثالث أكبر اقتصاد (بعد الصين والولايات المتحدة) من حيث الناتج المحلي الإجمالي.،...
موهيت أناند
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram