TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > جروح مفتوحة في الشرق الأوسط..مواجهة الماضي والثقافة المشتركة من الأناضول الى سهل نينوى

جروح مفتوحة في الشرق الأوسط..مواجهة الماضي والثقافة المشتركة من الأناضول الى سهل نينوى

نشر في: 25 إبريل, 2023: 10:13 م

سعد سلوم

أصبحت عمليات القتل الجماعي للارمن في عام 1915 الحدث التاريخي الأكثر مناقشة من قبل السياسيين والجمهور في كل من تركيا وأرمينيا في الأعوام الأخيرة، لا سيما بعد احياء الذكرى المئوية للمذابح في عام 2015، الأمر الذي ترك تأثيره على مستقبل العلاقات الأرمنية التركية، وعلى علاقة تركيا بدول الاتحاد الأوربي.

لكن الجدل حول الإبادة الجماعية للأرمن يسبق ذلك بعقود. وقد بدأ مسار هذا الجدل يتخذ منحى جديد مع اختراع مصطلح الإبادة الجماعية من قبل الفقيه البولندي (رفائيل لمكين) عام 1944، وأقرار اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، وقرار أرمينيا إقناع المجتمع الدولي بضرورة تطبيق هذا المصطلح على "مذابح الأرمن" في الإمبراطورية العثمانية والسعي لإعتراف أكبر عدد من اعضاء الأمم المتحدة بالمذابح كإبادة جماعية تنطبق عليها اتفاقية منع الإبادة الجماعية.

وعلى الرغم من إن العديد من الأطراف التي اعترفت بالإبادة الجماعية للأرمن تمثل قوى اقتصادية وسياسية من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كندا، روسيا، الولايات المتحدة في عهد بايدن، الإ إن قضية الإعتراف تم استثمارها سياسيا لجني فوائد من تركيا او معاقبتها في حالات أخرى، او وضعت شرطا امام تركيا كما في إشارة الاتحاد الأوروبي إلى أن اعتراف تركيا بالإبادة الجماعية هو بمثابة شرط مسبق لنجاح مفاوضات الانضمام. وأدى الضغط غير المباشر في هذا الاتجاه إلى تفاقم العلاقات بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي في أكثر من مناسبة وكذلك بالنسبة لعلاقة تركيا مع الدول الأخرى في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك دولة الفاتيكان.

مع ذلك، فإن الأمم المتحدة (الجمعية العامة و مجلس الأمن)، ما تزال تتجنب تعريف عمليات القتل الجماعي للأرمن عام 1915 على أنها إبادة جماعية على نحو رسمي (،على الرغم من تبني المصطلح في القانون الدولي من خلال اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الابادة الجماعية)، وتتذرع الامم المتحدة (وفقهاء القانون الدولي) بالطابع غير الرجعي للقانون الدولي المتجذر في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات من عام 1969 (كما ورد في المادة 28 منها).

لكن لجنتها الفرعية لمنع التمييز والحماية أصدرت تقريرًا حول (مسألة منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها) في تموز 1985 أعده النائب العمالي (بنيامين ويتاكر) بناءً على طلب من المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، يذكر ويتاكر في التقرير ان الانحراف النازي للأسف لم يكن الحالة الوحيدة للإبادة الجماعية في القرن العشرين. ومن بين الأمثلة الأخرى التي يمكن الاستشهاد بها على أنها مؤهلة، يذكر التقرير المذبحة الألمانية للسكان الهيرور في افريقيا في عام 1904، والمذابح العثمانية للأرمن في 1915-1916. والمذبحة الأوكرانية لليهود عام 1919، ومذبحة التوتسي للهوتو في بوروندي في 1965 و 1972، ومجزرة باراغواي بحق الهنود في آشي قبل عام 1974، ومجزرة الخمير الحمر في كمبوتشيا بين 1975 و 1978 والمذابح الإيرانية المعاصرة للبهائيين. ويشكل هذا الذكر للمذابح العثمانية للأرمن أعترافا من قبل الأمم المتحدة في بعض الاراء، في حين ترى أخرى إن مجرد ذكره في التقرير لا يشكل اعترافا رسميا من قبل الأمم المتحدة، ولا قيمة قانونية له.

يمكن تحديد تعريف الاعتراف بالإبادة الجماعية بإنه: الجهود التي تبذلها الشعوب او الجماعات أو الاقليات التي تعرضت للإبادة الجماعية لإعادة تفسير حدث معين على أنه "إبادة جماعية" أو تحديده رسميًا على هذا النحو. وقد يقوم بهذه المهمة باحثون وعلماء اجتماع أو سياسية او مؤرخون او فقهاء قانون بغض النظر عما إذا كان الحدث يفي بتعريف الإبادة الجماعية المنصوص عليه في اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948. لذا ليس تقرير الأمم المتحدة غير ذي أهمية في بعض السياقات، بل حتى تعريف الاتفاقية بحد ذاته لا يشكل حاجزا أمام عد بعض الأحداث إبادة جماعية بناء على معايير أكثر مرونة من تعريف الاتفاقية.

قي هذا السياق، فإن الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن يمكن تعريفه بإنه: القبول الرسمي بأن المذابح المنهجية والترحيل القسري للأرمن التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية من عام 1915 إلى عام 1923، أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، شكلت إبادة جماعية. وتعد هذه الحالة المثال الإشهر على النضال من أجل الأعتراف في التاريخ المعاصر، بما إن الحدث يعود الى أكثر من قرن مضى، وبما إنه قد تحول الى قضية تجتذب مؤيدين ومعارضين، لا سيما إن بعض الحكومات متحفظة على الاعتراف رسميًا بعمليات القتل على أنها إبادة جماعية بسبب المخاوف السياسية بشأن علاقاتها مع جمهورية تركيا.

لكن اعتبارًا من شباط 2023، اعترفت 34 دولة رسميًا بالأحداث التاريخية على أنها إبادة جماعية.، منذ أن أصبحت أوروغواي أول دولة في العالم تعترف رسميًا بالإبادة الجماعية للأرمن في 20 نيسان 1965، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، اعترفت برلمانات العديد من البلدان رسميًا بالحدث باعتباره إبادة جماعية. وقوبلت محادثات الانضمام التركية مع الاتحاد الأوروبي بعدد من الدعوات لاعتبار الحدث إبادة جماعية، على الرغم من أنه لم يصبح شرطًا مسبقًا.

في منطقة الشرق الأوسط، فإن موقف اغلبية الدول العربية او الشرق أوسطية التي أعترفت أو حثت على الاعتراف بالإبادة كان رد فعل على تدهور علاقتها مع السلطات التركية، و استخدمت دول اخرى الأعتراف كورقة ضغط مثل إيران التي اعترفت بشكل غير رسمي بالإبادة الجماعية للأرمن. وكان للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موقف يلوح بالإعتراف في شباط 2019 خلال مؤتمر ميونيخ للأمن لعام 2019، ان موقف الإمارات العربية المتحدة مماثل لسياسة هذه الدول بسبب تدهور العلاقات بين تركيا والإمارات العربية المتحدة، إذ أعلنت الامارات في نيسان 2019 الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن ردًا على سياسات تركيا، واصبحت إمارة أبو ظبي الإمارة الأولى التي تعترف صراحة بالإبادة الجماعية للأرمن. وكان هذا ايضا موقف سوريا، إذ تبنى مجلس الشعب السوري بالإجماع قرارًا يعترف بالإبادة الجماعية للأرمن ويدينها. تختلف مواقف هذه الدول عن موقف لبنان التي يشكل الأرمن فيها أقلية ذات حضور لافت، ـ ففي 11 ايار 2000، وافق مجلس النواب اللبناني بالإجماع على قرار يدعو إلى إحياء الذكرى 82 للإبادة الجماعية للأرمن.

في مقابل السعي للإعتراف بالإبادة الجماعية من قبل تركيا نفسها أو بقية الدول، فإن سياسة الإنكار تعد إستمرارا للإبادة الجماعية، فالإنكار هو المرحلة الأخيرة في المراحل العشر للإبادة الجماعية التي حددها غريغوري ستانتن Gregory H. Stanton، رئيس منظمة مراقبة الإبادة الجماعية. وهي مرحلة تأتي دائمًا في أعقاب إرتكاب الإبادة الجماعية، إذ يعمد مرتكبو الإبادة الجماعية إلى إخفاء الأدلة وإنكار الجريمة ويلقون غالبًا اللوم في ما حصل على الضحايا. لذا، يبقى التاريخ بالنسبة للآرمن حيا ومستمرا، وذكريات تعود لأكثر من قرن من الزمن ترفض أن تُنزل إلى صفحات التاريخ بل يُنظر إليها على أنها حضور حي ويتم احياؤها كل عام.

بظل إنكار الإبادة الجماعية معضلة سياسية تستمر حتى الوقت الراهن وتعد سياسة رسمية تتبعها الحكومة التركية، جاعلة من الإبادة الجماعية أكثر من مجرد سؤال تاريخ، أو مجرد مسألة تاريخية يمكن للمثقفين او المؤرخين النقاش بشأنها كما يفعلون في ما يتعلق بجذور الحرب في أوكرانيا، أو مسار طريق الحرير التاريخي وعلاقته بطموح التنين الصيني اليوم، أو سقوط بغداد على يد المغول في الماضي او غزوها من قبل الأميركيين في الحاضر، فهي قضية حية وراهنة تثير الجدل والخلافات الدبلوماسية بين ارمينيا وتركيا وبين الأخيرة وبلدان الإتحاد الاوربي وبين تركيا والدول التي تعترف بالإبادة الجماعية، كان أخرها الولايات المتحدة في عهد الرئيس بايدن 2021، والكرسي الرسولي بعد اعتراف البابا فرنسيس بإلإبادة الجماعية عام 2015.

مما تقدم من تحليل، لا ينبغي أن يتحول الإعتراف الى ورقة ضغط تستثمر لإغراض سياسية، فالإعتراف ليس قضية سياسية فحسب، وليس له بعد يتعلق بكشف الحقيقة وإعلانها ووضع الحدث في نصابه الصحيح، وهو أمر لا يتعلق الأمر بالبعد الأخلاقي الانساني فحسب، بل بجميع ما تقدم من إبعاد.

وهو ايضا قضية وجودية تتعلق بمستقبل تركيا نفسها كجمهورية ديمقرطية. وكيف تعيد هذه الدولة الشرق أوسطية تعريف نفسها وتحدد هويتها الداخلية وعالم الاصدقاء والإعداء في بيئة تقوم على التنافس والصراع. فالإنكار قد يتحول الى سياسة مؤامراتية تجعل الدولة تعيش في ظلال الخوف من اشباح الماضي متجسدة دوما في صور اعداء جدد، ووضع معايير تحدد "العدو الداخلي" وسياسة التعامل معه بقسوة ستصبح سلوكا لا يمكن للدولة ان تعيش بمعزل عنه. بعبارة أخرى أصبح ألاكراد في الثلاثينات وما بعدها ورثة وضع الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، كما لعب "أتباع غولن" دور "العدو الداخلي" في الحاضر. هذه الأمثلة توضح أن العدالة المنقوصة وسيادة القانون المفقودة تهدد مستقبل البلاد الديمقراطية وتصنع صورة فرانكشتانية مخيفة. الإنكار بأختصار يقوض الديمقراطية، في حين يحافظ الإعتراف ويحمي حقوق المواطنين جميعا وحسهم بالعدالة وايمانهم بسيادة القانون، بما فيه سيادته على الدولة نفسها، والأخيرة بتهربها من ماضيها وإنكاره تقوض مستقبلها وتتحول الى عدو لنفسها، وقد تصنع –كما فعلت دولة البعث-من طينة مواطنيها وجماعاتها الوطنية المتنوعة هياكل اعداء دائميين.

على صعيد المجتمع التركي، نعتقد أن تغيير البراديغم السائد بإن الأخر مصدر تهديد يمثل ثقافة ينبغي التحرر منه في تركيا وسائر بلدان الشرق الأوسط، وهذا ما جعل من الأكراد في العراق وسوريا وايران وتركيا مصدر تهديد لوحدة الدولة لعقود، وكذلك بالنسبة لمطالب الأقباط في مصر والشيعة في بلدان الخليج العربي.

إن تغيير البراديغم والانطلاق من كون التنوع مصدر غنى وعامل وحدة ومصدر ثروة هو ثقافة ينبغي الدفاع عنها، ومثلما تشكل سهل نينوى في العراق على سبيل المثال مكانا مرجعيا لثقافات مختلفة: شبكية، سريانية، كاكائية، إيزيدية، تركمانية، عربية، كردية الخ، فإن الأناضول ظل لقرون يمثل مصنعا لتفاعل ثقافات مشتركة أسهم في تغذيتها الأرمن والأتراك واليونانيين والأكراد، وهو ما يمثل ثروة عظيمة للمجتمع التركي ينبغي إستعادة أرثها المشترك وتحفيزها في الذاكرة الجماعية لمواجهة الماضي.

أخيرا، نعتقد بأن الحكومة العراقية يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في عملية التقارب بين تركيا وأرمينيا، بما تمتلكه من علاقات مع الجانبين، وإن دورها الأقليمي ينبغي أن لا يتحدد أو ينحصر في إمكانية لعب دور بين ايران ودول الخليج فحسب، بل أن التوسط من أجل السلام بين تركيا وأرمينيا خليق بتطوير دور جديد للعراق في وسط أقليمي قلق وزاخر بالجروح المفتوحة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram