طالب عبد العزيز
ليس من السوداوية قولنا بانَّ العالم ينحدر الى نهايته، التي لا يريد أن يُدركها القائمون عليه، ليس بسبب الحرب النووية المحتملة، منذ ثلاثة أرباع القرن، إنما باجتماع أسباب كثيرة، ولا نقول بحروب المال والاقتصاد والموارد وزعامة العالم، فهذه نتائج لما تحطم واندحر في روح الانسان، وما تهمش في داخله من أعراف وقيم ونواميس.
هناك نقص مريع في حبِّ الانسان لبني جلدته، وهناك كراهية غير مبررة للآخر، سبقها إمعانه في إفزاع أو طرد شركائه في الوجود(محيطه)ومن ثم تخريب حياتهم، بحرق وتجريف الغابات وتلويث المياه، والإنفراد بالطبيعة، التي كانت في الاصل لهم، والتي جئنا منها نحن، بافتراض حكمة السيد دارون. لم يعد الناس يتشوقون لبعضهم، لقد أفسدت آلة التواصل فطرة القلوب على الشوق والانتظار. يقول أحد المتصوفة: " الشوق يوهن أركان الجسد" لكنْ الوهن ذاك لا يعني المرض، هو وهن المحبين، العارفين. يؤسفنا القول بأنَّ قلوب الناس أمست جامدة، تنبض ببطء، لتموت ببطء أيضاً، وهناك شحٌّ مبالغ به في العواطف، إذْ لم تعد الناس تعانق بعضها بذاك الود القديم، الودُّ الذي تتكسر به الضلوع، لقد تسربت العواطف في الصور التي يتبادلونها بهواتفهم.
ربما لا تشكل قضية مثل البحث عن نوع نادر من الاشجار هاجساً عند الكثير من ابناء القرى اليوم، لكنها كانت شاغل المئات والآلاف ممن ظنوا بالطبيعة خيراً، وبوصفها ملاذ اللحظة الانسانية وحلم الغد، أما الذي لم يعد ذا معنى عند الغالبية فهو أنْ لا أحد يسألك عن ذلك وأهميته في علاقة الناس مع بعضهم. أمس جاءني أثنان من الفلاحين، يبحثان عندي عن فسائل نخل يحبّونها، فأعطيتهم ما جاءا من أجله، كنت أرقب مراكب السعادة وهي تبحر في أعينهم، أنا أيضاً كنت سعيداً، لأنني أعطيت، مشيتُ خلفهما وهما يغذان السير الى بساتينهم. غمطُ العواطف ينتج عنه شحٌّ في الانسانية، إذ من العار ردم بحيرات الجمال بعزوفنا عن تقصي المآثر البسيطة فيها، هناك بشاعة غير محدودة في تأثيث وجودنا بما لم يكن فينا من قبل.
نحن ننظرُ مستمتعين بماء النهر لكننا، لا نُعنى بما يلقي الأشرارُ في جوفه، نتأمل المرأة الجميلة، وهي تخطف بيننا، بعطرها وكامل انوثتها، لكننا لا نُسمعها ما يحلو لها سماعه، نتعلم اللغة لكننا لا نعشقها، وسوى نفر من المتصوفة والشعراء لم يعد يهيم بها أحدٌ، نتحدث عن الصدق لكنه لا يدخل قلوبنا، نستحضر مآثر الكرماء والباذلين والمعطين لكنَّ أيدينا مغلولة. للأسف، لم نتعلم درس الطبيعة وهي تحتفل في مواسم الغرس، تبتهج بما ندسُّ في جوفها من شجر وبذور وعُقَل، وفي ما نتبادله بيننا من ذلك تكمن أفراحها، القلوب أيضاً تبحث عمن يؤثثها بالكلمات، ذات الجرس المنغم، الاجراس كذلك تبحث عمن يطرقها برفق. في روايته(انقطاعات الموت)لا يتحدث سارماغو عن رعب الناس من الموت، إنما عن رعبهم من بقائهم أحياءً، في اشارة لما وقعنا فيه.