حيدر المحسن
يعرّف سقراط الفلسفة بأنها "معرفة الموت، ومن دون الموت لا يمكن للبشر أن يتفلسفوا". الموتى فلاسفة إذن فهم لا يجيدون غير لغة الزهور، ويفضّلون الصمت المهيب على الكلام. لقد ارتحلوا إلى ما وراء النوم والأحلام، فكلامهم مفهوم في مملكة النسيان الخالد، حيث تفقد المفردات معانيها وتحتفظ بالصوت والشكل فحسب، مثل أحاديث الطيور...
تقع مقبرة أهلي في مدينة النّجف، ضمن الأرض المسمّاة "رملة علي"، بسبب قربها من ضريح الإمام علي بن أبي طالب، وتُدعى أيضا بمقبرة وادي السلام، وهي صحراء تنتشر عند تخوم البلدة، وليس فيها غير متاهة من القبور كأنما لا نهاية لها، لكنها رغم ذلك تبقى مكانا فريدا في الوجود، بسبب قِدمها أولا، ولأنها تضمّ رفاتَ عشرات أو مئات الألوف من أولئك الذين زالوا من حياتنا على نحو غريب، واحتمال عودتهم مستحيل. آه، من منا لا يهفو إلى ذلك الزمن الذي مضى عنّا دون رجعة، كما أن الزمن الحاضر يمتزج على أرض المقبرة مع الماضي القديم، ولا وجود لشيء اسمه المستقبل، والميزة الأخيرة تشترك فيها جميع أماكن دفن الموتى. إن المستقبل الذي ينتظر الراقدين في القبور غير منظور بعين الإنسان وعقله، وهكذا لجأنا إلى الوجدان، لأنهم قريبون منا ولا نصدّق أمر فقدهم إلى الأبد، وصرنا نقيس ما سوف تأتي به الأيام وفقَ ما يريد الفؤاد وما يتصوّر، وهذا عملٌ أدبيٌّ بحت، وما جرى لي في زيارتي الأخيرة إلى مدينة النجف يقع هو الآخر ضمن أعمال الأدب...
حدث الأمر قبل بضعة أشهر، وكنت بلغتُ المكان قبل الفجر، وأمضيتُ وقتا في البحث عن "بيت أهلي"، وهو اسم اخترته لمقبرة الأسرة، ذلك أن بيتنا القديم ضاع في غبار تاريخ الأيام الحزين، وصار بديلا عنه هذا البناء المتواضع المكوّن من فناء صغير وغرفة بنافذتين واسعتين، واحدة تُشرف على الشّارع، والأخرى تطلّ على الفناء، وتضمّ الغرفة رفات أبي وأمي (لبيبة) وخالتي (جميلة) وعمّتي (هيلة)، وكذلك (مائدة) زوجة أخي، وهي أختي. مثلما كانوا يهنَئون بالراحة، وتغمرهم السعادة في بيتنا في مدينة العمارة أراهم هنا في المقبرة- البيت، عذوبة الظلّال تبعثهم أحياء مع عطرٍ زهريّ من رياض الجنة. تطلّعتُ إلى قبر أمي أولا، ثم دنوت منه وأحسست بزيادة في نبضات قلبي، ربما هو الحدّ الأقصى لما يبلغه القلب الإنساني عندما يخفق ويضطرب، وشعرتُ بتوتّر يصل أطراف عروقي، كأن صبغة جديدة أخذت تلوّن دمي الذي يذرعني جيئة وذهابا، وكنتُ أشمّ عبيرا أتاني من عتبة الحياة الأخرى. ثم سيطر عليّ إحساس غريب وفكرت في أن حياتي كلها على وشك التغيّر. لقد ولدتني أمي ثانية في هذا البيت – المقبرة. كان البدر طالعا في السماء، وأشرقت الشمس كذلك في تلك الدقيقة، وصار الاثنان ينحتان لي عميقا صورة أمي، وها هي تجلس قربي، رغم أنها فارقتني منذ ثلاثة عقود، أطالعها وتطالعني. أخذت المرأة السبعينيّة التي ما زالت تحتفظ بجمال المحيّا نظرتي إليها، وأعادتها إليّ، وعيناها النديّتان تخبراني بأن الولادة الثانية تأتي بإنسان كلّيٍّ لا يهبط إلى القاع أبدا. إن ولادة الجسد عملية طبيعية تحدث لجميع الكائنات، حتى الدقيقة منها كالبكتريا والطّفيْليّات، أما ولادة الذات فهي عمل صعبٌ يحتاج إلى معجزة، فهل كان ما شهدته في ذلك الفجر البعيد معجزة، أم حلُماً؟ لا يقلّ الأثر الذي يتركه الحلُم في المقبرة في صدقه عن ذلك الذي تتركه المعجزات.
حين ودّعتُ المكان اكتشفت أن رائحة الزّهور تركت بقعا من الطّيب على ثيابي. وفي اليوم التالي عدت إلى عملي، وكنت أنظر حولي وأجد العالم لم يعد مثلما كان. هنالك سرّ أعطته أمي لي لا محالة، هِبَة طفِقت تتسرب في أعماقي منذ اللحظة التي لامست أصابعي قبرَها. عطيّةٌ منها فتحتْ أبواب حياة جديدة كنت أحسّ بوميضها في داخلي. هل نقلت أمّي أشياء من عالم الجنة الذي تعيش فيه إلى عالمي؟
جميع التعليقات 1
جعفر صادق رشيد
الله يرحم روحها و يدخل روحها الجنة. بعض الناس تستمر اثارهم بعد الانتقال الى الاخرة.