TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > ماذا يعني التدين الحيوي ؟

ماذا يعني التدين الحيوي ؟

نشر في: 29 إبريل, 2023: 11:06 م

كه يلان مُحمد

تنبأَ الروائي الفرنسي أندريه مالرو بأنَّ القرن الحادي والعشرين إما لايكون أو يكون قرناً دينياً.والغائب في منطوق النبوءة هو تحديد الشكل الديني الذي سيهمين بمظاهره على مفاصل الحياة.ويتغلغلُ في أجندة الإنسان المُعاصر؟وهل يكون الدينُ عاملاً للاستقرار والاستباب الاجتماعي أو يذكي العصبيات الهامدة تحت قشور الحضارة؟

صحيح أنَّ مايجمعُ بين المتدينين بغض النظر عن الاختلاف في العقائد هو التطلع إلى اللامتناهي أو الظمأ الانطولوجي حسب تعبير ميرسيا إلياد غير أن هذا المشترك لم يمنعْ نشوب التناحر والصراعات الدموية بين أتباع الأديان والمذاهب.وبالطبع إنَّ كل طرفٍ يريد مصادرة مفهوم الحق وبالتالي لايكون للآخر سوى صفة الباطل.هل هذا يعني بأنَّ هناك نسخة وحيدة للدين تستمدُ شرعيتها من الصراع الأبدي وتقديم الأضحية من الدم ؟ وبالتالي لايمكنُ التفكير عن موضوع الدين خارج عن المعادلة الإلغائية بين المواليين لتعاليمها؟ لاشكَّ بأنَّ تطويع الدين غطاءَ لأغراض سياسية أو لمصالح طبقية ظاهرة تضربُ بجذورها في التاريخ. وكما يقولُ ماركس فإنَّ الإنسان غالباً مايتمُ استغلاله عن طريق العاملين الديني والاقتصادي ويمكن إضافة الشعور القومي أيضاً ضمن المشاريع الرامية لتدجين إرادة الفرد.

البعد الكوني

الأزمةُ الحقيقية لاتكمنُ في المثال الديني بقدر مايكونُ في النظرة الاختزالية والرؤية السطحية لمُعطياته فالشكل السائد من أي ديانةٍ قد لايعكسُ كل طبقاتها الفكرية الدفينة وأبعادها المُتعالية ومن المعلوم إنَّ المناخ العام يلعب دوراً لافتاً في الترويج لنسق معين من الأفكار والأفهومات المُحددة.والحال هذه فإنَّ التراشق بين أتباع الأديان وإزهاق الأرواح في الحروب العقائدية والمذهبية يحتمانِ البحثَ عن زاوية جديدةٍ للنظر في جوهر الدين وإدراك مغزى منهاجه لعلَّ في ذلك إمكاناً بكشف المستور خلف أكمة عقائدية .هنا السياقُ يستدعي من جديد التأكيد بأنَّه من الشطط في التفكير المطالبةُ بأقصاء الدين من واقع المُجتمع لأنَّ القيم الروحية تعبر عن التوق للخلاص الأبدي ومتضافرة مع مفاهيم الهوية والانتماء والتضامن.كما أن زيادة الوعي بالفناء حسب تحليل أرنست بيكر يقودُ إلى البحث عن الدفاعات التي تدعم حالة إنكار الموت.هنا مايواسي الروح هو الخلود الرمزي المتمثل في التماهي مع البطل والأيقونات والانضمام إلى المحفل التعبدي. أكثر من ذلك فإنَّ الإحساس الديني حسب رأي بنجنامين كونستان بمثابة قانون أساسي لطبيعة الإنسان.ويستمدُ الدينُ خصوصيته من الجواب الذي يقدمُه للسؤال المرهق بشأنِ معنى الوجود.وهو ما يعيدُ الباحثُ المغربي طرحه في كتابه "فلسفة الدين بين التجربة الباطنية والتأمل النظري" بصيغة هايدغرية "لم كان هناك وجود وليس بالأحرى العدم؟" بخلاف مايذهب إليه ماسلو في نظريته القائمة على التشكيل الهرمي للضرورات حيث يكونُ للاحتياجات الجسدية الأولوية فإنَّ فيكتور إميل فرانكل يرى بأنَّ الرغبة في المعنى قد تكونُ أكثر إلحاحاً وهو يذكر شواهدَ من تجربته في أوشفيتز على أنَّ تفاقم الخطر يضفي إلى استنفار طاقة الإنسان بحثاً عن المعنى.

ومن المعلوم أنَّ مايقدمه الدين على هذا الصعيد يبدو مقنعاً أكثر وذلك لوضوحه وسده للفراغ النفسي.هل يفهمُ مما أسلف التلميحُ إليه حول العلاقة بين التعطش للمعنى والدين أنَّ البعد الروحي ومايتبعه من القلق على النهاية لايمكنُ مواجهته إلا من خلال القول الديني ؟ ماذا عن الفلسفة ؟ أين يتقاطعُ المبحثانُ اللاهوتي والفلسفي؟ ألم يقل شوبنهاور :لولا الخوف من الموتِ لما كانَ الدين ولا الفلسفة؟ إذن لماذا لايكونُ التعويل على الخطاب الفلسفي؟ وبالفعل إنَّ مايقولهُ أبيقور عن السيناريو الأخير واضحُ ولايخلو من المنطق فبرأيه إنَّ الموت ليس حدثاً بالنسبة للميت لأنّه قد تحول إلى كتلةٍ لم تعد مدركةً للأشياء مايؤلمُ منها أو ما يُمتع.أما عن تحسر الإنسان لاستمرار الحفلة بعد غيابه يحتجُ المذهب الأبيقوري مجادلاً لماذا لايتألمُ المرءُ على الفترة الزمنية التي سبقت ولادته ولم يدركها ؟ أليس مايعقبُ موته هو بمنزلةِ ما لم يعشه قبل وجوده؟ لايتوقعُ كارلو سترينحر أن تلغي الحجج الأبيقورية الخوف الإنساني من الموت موضحاً بأنَ مصدر هذا الخوف لايستندُ على أساس عقلاني بل جزءُ من الموروث البيلوجي.ومايصعبُ التحول من اللاهوت إلى العقل هو أن السرديات الدينية يقبلُ بها الإنسانُ أسلوباً للحياة مُتمظهرةَ قواعدها في الشعائر والطقوس الحامية للتماسك العقائدي بينما العقلانية دونها العقبة الكأداء قبل أن تتجلى مبادئها في شكل الحياة لدى الفرد أما بشأن المسافة الفاصلة بين العقلانية والجموع فحدِثْ ولاحرجْ. كما أنَّ النظر إلى الكون بوصفه مجالاً طبيعياً يمكن فهم قوانينه حسب المنطق العقلاني أمر جديد للفهم البشري .هل يعني ذلك بأنَّ الفصل بين الدين والفلسفة حتميُ ولامجال لإيجاد الأرضية المشتركة لأنَّ بينهما برزخاً لايلتقيان؟

مابعد العقيدة

ما يجبُ تحديده قبل الحديث عن إمكانية التواصل بين الدين والفلسفة هو أن الدين فطري وليس مترادفاً للمذهب والعقيدة وكما يقول محمد مزوز أنَّ المراد بالدين هو إدراك فردي لحقيقة كونية فيما العقيدة من طبيعة جماعية تخص أمة وشعباً ولايتحطمُ الجدار العقائدي إلا من خلال النظرة الفلسفية وهي تستكشفُ منطقة محايدة للبحث عن الجوهري في الأديان وليس الشكليات.لذلك فإنَّ مكونات الخطاب العقائدي تقع خارج مايسميه الفليلسوف الألماني كانط ب"الإيمان الحر" الذي يقومُ على القيمة الأخلاقية ولاينتظرُ صاحبهُ الثواب والعقاب.مايكسبُ رؤية كانط لمفهوم الدين فرادة حسب الباحث الفرنسي "جان غروندان" أن مؤلف "نقد العقل الخالص" لم يؤسس الإيمان العقلي على تصور الله مستخلص من نظام الطبيعة بل استنبطه من القانون الإخلاقي المسجل في قلب كل إنسان.لذلك فإنَّ السعادة الإلهية لايمكنُ تذوقها إلا بواسطة السلوك الأخلاقي .هنا تستشفُ التناضح بين الفهم الكانطي والرؤية الصوفية للدين إذ يهتمُ الخطان على الجانب السلوكي في التدين يقولُ الحسن البصري : إن الفتى إذا نسك لم نعرفه بمنطقه إنما نعرفه بعمله وذلك العلم النافع" ويصلُ الصوفي إلى مرتبة ماوراء الثواب والعقاب ولايتفانى في المعبود خوفاً من النار ولارغبةً في الجنة. يقول جنيد "إذا خاف المرءُ فإنَّ هذا دليل على أنَّه غير واثق من ربه"كما أنَّ الفليلسوف لايهمه التفاضل بين الأديان بقدر ما ينفتحُ على مختلف التيارات راصداً المبدأ المشترك في سلسلة اللحظات الدينية كذلك الأمر بالنسبة للمتصوف فقلبه مشرعُ على النفحة الإيمانية أيا كان مصدرها وتعكسُ نصيحة الشبخ الأكبر ابن عربي الحيوية في فهم الدين "إياك أن تتقيدَ بعقد مخصوص وتُكفر بما سواه فكن في نفسك هيولي لصور المعتقدات كلها ،فإنَّ الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد" وهذا ماتسمعهُ أيضاً من الحلاج الذي يؤمن بأن أصل الدين واحد وإنْ ظهرت له شعب متعددة.وماتم تصدي له آنفاً ليس كل ما يتقاطعُ فيه الصوفي مع الفهم الفلسفي للدين.بل التواضع وعدم إطلاق الأحكام على المختلف هو أبرز مايجمع الصوفي ورواد الفلسفة العملية ولم ينقل عن المتصوفيين الفتاوى ضد من لايؤمن بالمعتقدات الدينية مايعني أنَّ المنهاج الصوفي أبعد مايكون عن التحجر والنفس العدواني .ويقوم مبدأه على المعادلة اللاصفرية .إضافة إلى ماسبق الإشارة إليه فإنَّ التفلسف والتصوف كليهما يأخذ الدينامية من المزاج والتذوق كما توجدُ المدارس الفلسفية المتعددة ولاضير من أن يقتات الطالبُ على موائدها يلاحظُ المتابعُ أيضاً وجود المسالك الصوفية بألوان مختلفة يمكنُ التذوق من رحيقها الروحي دون أن تكون من أتباع هذا الاتجاه أو ذاك التيار بالضرورة إذن ليس هناك وصفة محددةُ يمكن تعميمها في التصوف والفلسفة. قصارى القول في هذا المقام أنَّ مقابل التدين المتشنج والانغلاقي تقع على التدين الحيوي المنفتح لايشغله المظهر ولا الاستعلاء الديني بل التجدد والانسلاخ من الجلد العقائدي الذي لايمثلُ صورة الحق بقدر ماهو متشبعُ بالنزعة الأنانية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram