طالب عبد العزيز
ذات يوم سئلت، ما إذا كتبت قصائد عن المرأة؟ وهل كنت نصيرا لها أم لا؟ فأجبت: أنا من جيل لم تأت الحربُ عليه وحدهـ، إنما أتت على نصفه الثاني أيضاً، وأننا صحونا ذات يوم فوجدنا فحولتنا قد اكتملت، وأضحينا مهيأين للحب والقصائد الملونة والسهر.. وحين طوقتنا الحياة بذراعها الرطب جاءت الحربُ بذريعتها المرعبة، لتصنع من أجسادا سواتر وخراطيش رصاص ودبابات وبنادق للعبتها الكبيرة، لحظئذ تركنا نصفنا الثاني يكمل المشوار وحده، مشوار الطفولة والفراشات الذي لن يكمل إلا بنا.
لذا، كنت أطيلُ وأنعم النظر بأعناق وسيقان بنات جيلي، اللواتي كن مهبط الحلم والمفزع، وقد عنَّسنَّ، أو ترمّلنّ، او نُسين في غياهب الدهور، وبكّرن بارتداء الثياب السُّود، ولما تخلل شعْرَهنَّ ثلجُ الثلاثين أسرعّنَ يخفينه بالحُجُب والقبعات، وحين دهمت الغضونُ والتجاعيدُ أعناقهن (أباريق العطر) أكثرنَّ من الازرار عليها، ولما فقدتْ سيقانهُن بريقَ الصِّبا التجأنَّ للجوارب السميكة.. وهكذا، توارى الجسدُ بعزِّ عظمته وجبروته، غاب وهو بعنفوان حاجته، لذا أصبحتِ أرواحهنَّ مرتعاً للأدعية والنذور والصلواة الاضطرارية والنسك الزائف.. كيف لا والرغباتُ الآن ذكريات، كما هي عند كالفينو.
بقصائد قليلة، أردتُ أن أتحدثَ عن الجسد الذي مزقته مُدى الامل، الكيان الغض، لكن منزوع الحاجة، ومن فروج في قلبي كنتُ أراهنَّ فزعاتٍ، ينشرنَّ شعورَهنَّ خلف المركبات المسرعات، أو متعلقاتٍ كالاضاحي بالاضرحة، وحاضنات التوابيت المغلقة، وقد شققن عن جيوبهن، و الصقن صدورَهنَّ على شبابيك الفضة. وفي الصحو والمنام كنت أرى أفئتدهن وهي تسقط في الايوانات والدهاليز الفسيحة، وفي باحات مراقد الائمة والاوللياء المتناثرين على الفرات، مثل خرزات خضر تفرطن على الطريق من عقد لم يلظم كما شيء له، فسكنَّ المقابر، أو طوين في سجلات دائرة التقاعد، أو وقفن ساعاتٍ وساعات، في طابور لا نهاية وشيكة له، مملٍّ ومزعج في مستوصف، ينتهي بالصحراء.
وكنت أرى صدوراً بيضاً ناهدةً، أو لم تنهدْ بعدُ، وأرى رغباتٍ ذئبيةً تتزاحم على انجاز المعالمة هذه او تلك، وأرى صفقاتِ جنسٍ رخيصٍ تنعقد في العيون، ومواعيدَ تضرب في الحافلات، ورأيت رأيت نساءً كنَّ منتهى حلم طويل، لا تطاله الايام فرحاً ومباهجَ، وقد طُوينَ في سجّادة صلاة، أو انسحبن الى مسجد قريب.. هل رأيت جسداً يتحول في لحظة غادرة الى حائط مبكى؟ نعم، أنا رأيتُ نساءً انسحبَّنَ من فنن الحياة ليتحولنَ الى مساجد وحسينيات لا أول ولا آخر لها.
كنتُ أحاول أن أرتدي رغبات ذلك الجسد، ولأقول عنه ما ليس باستطاعته أن يقوله، أردت أن الملمَ ذاك النثار الحبيب، الذي آلَ اليه، أردتُ أن أُعلي من شأن لغته، وأعلنُ حبّي وإنتمائي له، وكنتُ أرددُّ مع الطيّب صالح: إنَّ الحضارة أنثى، وكل ما هو حضاري فهو أنثوي": وأتذكر أنني قلت لإحداهنَّ ذات يوم: "حين تبتكر الصباحاتُ بهجةً أكثر منك/ وحين لا يعني المطرُ طفولتك وقمصانك البيض/ وحين لا تصعد الشمس بفضتها وعصافيرها شرفتك الحبيبة/ وحين لا يخضرُّ الآجرُّ ساعة تمرين به/ وحين لا تنتظمُ الفراشات ظلاً على مخمل وجنتيك/ وحين لا يعني ذبولُ وردة ألمك وضجرك/ وحين يتوب الليل من تشبهه بشعرك/ وحين لا يصفرُّ البنفسج خجلاً من وجودك فيه/ وحين لا تزدحم الطرقات بعطرك واسمائك/ وحين يفتح الفرح بابا غير صوتك لي/ آنذاك سأغلق نافذتي الى الابد.