طالب عبد العزيز
في شتاء العام 1975 أخذنني سيارة الفولفو لأعمل نجّاراً في مزلق(مسفن) القاعدة البحرية بأم قصر، لصالح شركة إيفان بيم مليزوفيتش اليوغسلافية، كان حديد السيارة بارداً، ولا أعرف أحداً معي، وكنتُ أعتمرُ قبعة فرنسية داكنة، لكنَّ أذني لم ينعما بالدفء طوال الطويل.
أسلمتني الورقة التي كنت أحملها الى رجل أبيض أشقر وطويل، نحيف كرمح، هو المهندس ستانكو، الذي اختبرني، وقبل بي مستخدماً عنده، بناءً على ما في الورقة، غير متيقنٍ من كفاءتي، ثم اعلمني مقدار الأجر، الذي أستحقه، ومن مكتبه خرجتُ الى البحر، كان الماء المالحُ يلطم الساحل الطويل، وكانت الشمس بعدُ بيد الموج ما تزال.
لم أر البحر إلا مرةً واحدة من قبل، ففي العام 1973 حملتني بارجة الطوربيدات، روسية الصنع، من قاعدة الجبيلة القديمة، التي بناها الانجليز الى القاعدة البحرية الجديدة، التي بقرية الصامتة على الحدود مع الكويت، في السنة تلك كانت الحرب العربية الاسرائيلية قد ابتدأت، أغترف الطوربيدُ الشط العظيم كلّه، وخلّف غابة النخل وراءه، لكنني، لم أعرف معنى رحلتنا التي استغرقت الليل وشطراً من النهار، مارين بنقطة رأس البيشة، ومن ثم الى أم قصر، حيث القاعدة الجديدة، التي لم يُبنَ مسفنها بعد، لكنَّ الجرفَ كان مائلاً بما يكفي لصعود سفينة عليه، أو إنزالها ساعة يكون المدُّ قد بلغَ غايته.
في الشهر الاول تعلمتُ كيف الفظ وباليوغسلافية مفردات مثل صباح الخير، ومساء الخير، وبكم الساعة، وأين أنت، ومفردات مثل بيض، وحليب، وخبز، واستراحة ومثل هذه وتلك من الشتائم أيضاً، فقد كنتُ أحمل قلماً ودفتراً صغيراً أدوّن فيه ما أسمعه من رئيس العمال(الفورمن)المستر دروكشه، الذي يعرفُ الانجليزية دون العربية، ولأنني أفضلُ بانجليزيتي من رئيس النجارين، الفورمن (عبد الله) فقد كان يلجأ لي في التفاهم مع بقية النجارين، إذا ما استعصى عليه أمرٌ مع عبد الله. كنتُ نجاراً فاشلاً، أكاد ألمسُ ذلك، لكنني في الشهر الثاني أصبحتُ افضل، وفي الشهر الثالث والرابع، حيث كان الشتاء يشرف على نهايته أكملت دورة العمل، وصرتُ أستاذاً(أسطى)وتطوّرت كثيراً لغتايَ الانجليزية واليوغسلافية. في الشهر السادس أخذ مستر ستانكو المطرقة وخُرُجَ المسامير منّي، ورمى بها بعيداً، واعتمدني مترجماً عنده.
في السنة تلك قرأتُ(جسر على نهر درينا)لليوغسلافي إيفو أندريتش وتحت(أعواد المشانق) ليوليوس فوتشيك، ولم أقرأ ريماك في(ليلة لشبونة) بعد.. لكنني، تركتُ العملَ قبل إكمال المسفن، لأنَّ الشمس التي استعجلت الصيف ذاك كانت محرقة ورطبة، بما لا يوصف، وتسببت لي بنوع من طفح جلدي، تأخر شفاؤه. في العام 1978 أستدعيتُ جندياً احتياط في ذات القاعدة البحرية بأم قصر، وبقيت ستة أشهر، وفيها أيضاً دخلتْ شاحنةٌ محملة بعشرة أطنان من الحديد جسر السراجي وهوت به، لتنقطع بأهل ابي الخصيب السُّبل، لذا كان عليَّ أنْ أخرجَ ماشياً على قدمي بعد منتصف كل ليلة، كيما أصل الى أم البروم، التي ستاخذني السيارة منها الى القاعدة. وفي السنة تلك، لم يمض على خروجي من دائرة الامن إلا بضعة أسابيع، كنت قد بصمتُ على قرار 200 -سيء الصيت- والقاضي بحكم الاعدام على كل من ينتمي لغير حزب البعث.
كان يتوجبُ على مستعمل الطريق الى أم قصر أنْ يستقل سيارة الفولفو قبل صلاة الفجر، لأنَّ الطريق الى هناك بساعة ونصف ويزيد أحيانا، ولكي أكون في القاعدة البحرية كما يقضي الوقت سيتوجب عليَّ مباغتة الشمس طفلةً، وقبل خروجها من البحر، لطالما وجدت المسكينةَ، نائمة بانتظاري، فهي تستقبلني هناك، وتودّعني من هناك ايضاً، أتحدثُ عن سبعينات القرن الماضي، يوم كانت بريّة الزبير متصلة ببرية أم قصر حتى البحر، ولم يسكنها أحدٌ بعد. في السنة تلك، لم أكتب إلا قصيدة واحدة عن الشمس، لقد كان الوقت ضيقاً، وليس بين يدي من الليل لأكتب إلا ما أجده بين المقاعد:
الشمس
كلَّ يومٍ تفاجئوني بالبنفسج والبرتقال / يخرجُ البحرُ من يدها / عارياً، غيرَ من دهشة الانفصال/ ثم يرفعها، لمقامِ سماواتِه / طفلةً من أرزٍّ وماءْ / وقليلٍ من سؤال/ تتكاسلُ بين يديه، تنام / ويحلُّ لها شعْرها / فتجيئ الطيورُ تسرِّحه، مطراً وضياءْ / غيرَ أنَّهُ حين يغادر هيأته / ويعودُ له طبعُه القاهرُ المتعال، تستحيلُ كرةْ / كرةُ الماءِ يقذفها الصِّبيةُ بالحجر / ثم تهربُ، ملتاعةً بالحصى/ تدسُّ بأعطاافها في الرمال / آخرُ الجُّندِ ترفع رايتها / غيرَ قادرة أنْ تموتْ / أترى دمَها البحرُ كان؟ / والكواسجُ من لحمها؟ / والشواطئُ أضلعها النَّخرات؟/ أم ترى اللؤلؤَ الذي لم نرهُ كانَ أسنانَها الساقطات؟