اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > سرد اليوميات والتقارير الصحفية في الرواية الواقعية

سرد اليوميات والتقارير الصحفية في الرواية الواقعية

نشر في: 6 مايو, 2023: 09:33 م

د. نادية هناوي

لعل من الظواهر الأدبية اللافتة للنظر في الرواية الواقعية الراهنة ظاهرة ملاحقة الوقائع الساخنة أيا كانت سياسية أو اجتماعية أو رياضية والكتابة عنها روائياً،

أما لأهمية هذه الوقائع أو لما تولده من ردة فعل جماهيرية تعطي للكاتب مساحة عريضة وخيارات متعددة من الرصد السردي الذي يفتح له آفاق التخييل ويمنحه شعورا بأداء مهمته الفنية، منتقيا مادته السردية مما يشاهده أو يسمعه أو يطالعه في وسائل الإعلام والتواصل على تنوعها.

ولكن وسائل التواصل نفسها مسخرة هي الأخرى لتأدية أغراض محددة ومدروسة لاسيما الرسمية منها التي تملك إمكانيات تجعلها قادرة على توجيه طريقة النقل الخبري للوقائع توجيها مدروسا فتضخم هذا الخبر وتفبرك ذاك، وقد يتطلب التوجيه أن تصنع من مراسليها نجوما يعطون للأحداث سخونة، مراهنين على ما يستجد فيها من مفاجآت، فالإعلام صناعة وتتفاوت جودة هذه الصناعة بحسب طبيعة الوسائل والقائمين عليها.

والروائي حين يلاحق وقائع جارية أو منصرمة فهو الآخر يمارس دورا يدنو من الدور الإعلامي، ونعرف من سير روائيين مشاهير ممارستهم للعمل الاعلامي وانغماسهم في حيثياته.

وإذا كان للتقرير الإخباري أن يصبح مادة روائية فكذلك هو مادة مادة وثائقية، ولكن بعد حين، أي بعد أن تكون الأحداث قد انقضت، والتأثير الإعلامي خفت أو زالت طارئيته وغاب كل ما كان يرافق الخبر من راهنية او انفعال يؤديان الى التخفيف او التهويل. ولا يستغني المؤرخ عما يدونه الروائيون والقصاصون في أعمالهم السردية عن واقعة ما أو شخصية معينة بوصف التاريخ سجلا وأرشيفا لا يدوِّن ما هو راهن، وإنما يدوِّن حركة واقع غابر مضى وانتهى في تأثيره وسلطته ولكن امتداداته ما زالت تفعل فعلها في الواقع الذي له حركته وسلطته وصراعاته.

والغاية من الكتابة التاريخية توصيل الماضي بالحاضر في توافقهما أو تعارضهما، من أجل فهم حركة المجتمعات الإنسانية في حاضرها ومستقبلها.

وما بين الكتابة التاريخية عن واقع غابر وبعيد، وكتابة التقارير الإخبارية عن واقع معيش وراهن، والكتابة السردية عن واقع متخيل، تكون الحقيقة قد تلبست بعدة لبوس لكن يبقى السرد هو مادة التاريخ والصحافة والادب، فهو متغلغل في كل صنوف الكتابة وحقول المعرفة. ولا مجال للمؤرخ أن يتبرأ من السرد مثلما لا مجال للإخباري الصحفي أن يتجرد من السرد في كتابة تقاريره. ولكل واحد منهما أغراضه، فالمؤرخ يوثق الوقائع التي مضى زمنها وانتهى أوارها، والروائي يستكشف الوجود عبر محاكاته، والإخباري يتابع الحياة في يومياتها عبر نشاطه الاخباري.

وبسبب حتمية هذا التعالق بين السرد والصحافة والتاريخ يختلط أمر الرواية الواقعية المرحلية أو(رواية الحقبة) بالرواية التاريخية، فيبدو الأمر وكأن كل كتابة روائية عن حدث راهن أو واقعة معيشة تصنع رواية تاريخية، بل الصحيح هي رواية واقعية تحوّل الواقعة المرحلية إلى متخيل واقعي أيا كانت الواقعة قد وقعت فعلا أو هو ما زالت واقعة أو ستقع مستقبلا. ومن مجموع المتخيلات الواقعية تتشكل مادة إخبارية اجتماعية أو سياسية يمكن أن يفيد منها المؤرخ الذي سيأتي بعد زمن ليوثق تلك الوقائع. وستكون هي الاخرى مادة سردية يمكن للروائي ان يطوعها في الكتابة عن ذاك الحدث فتكون الرواية تاريخية، وقد يعيد كتابة هذا التاريخ من جديد فتكون الرواية رواية تاريخ.

وكثيرة هي الروايات الواقعية التي لاحقت أحداثا مجتمعية عارمة وشعبية، لها أبعادها السياسية والاجتماعية والتاريخية. وتنوعت أساليب هذه الروايات في رصد الواقع وتسجيل أحداثه ومن ثم حكاياته، ومن تلك الأساليب كتابة اليوميات والتقارير الصحفية التي تعني ملاحقة ما هو مألوف واعتيادي وشائع والإحالة على العابر المتفشي والهامشي بعيدا عن كل ما هو استثنائي وخارج عن المألوف.

وعن طريق كتابة اليوميات بصيغة التقارير الصحفية قد يرصد الروائي إيقاعات الحياة في جميع تفاصيلها بدءا من المهم والرئيس وانتهاء بالمهمل وغير الضروري، عاكسا سطوة الروتين وشعبويته، وممغنطا سرده على وتيرة نظامية تتكرر. وهذه الوتيرة هي أحد المنزلقات في استعمال طريقة كتابة اليوميات وعلى الروائي أن يفطن إليها، وإلا فإن إيقاعات سرده ستنفرط حبكتها ومن ثم يفقد عمله حرارته وتغدو روايته عبارة عن استقصاءات صحفية شأنها شأن التقارير الإخبارية ويغدو مثله مثل المراسل الصحفي الذي عليه أن ينجز تقريره اليومي غير آبه للمستجد ولا مهتم بالطارئ ولا عابئ باستبطانهما.

إن مطب السير على وتيرة واحدة هو ما يجعل كتابة اليوميات غير محبّذة عند كثيرين من الكتاب الروائيين، خوفا من أن تسقط الرواية في مهوى التقريرية فتعيد استنساخ الواقع كما هو، أي أنها تنقل ولا تتخيل وتحاكي التفاصيل محاكاة حرفية.

وعلى الرغم من ذلك، فان هناك روائيين اتخذوا من اليوميات بالصيغة الخبرية وسيلة تساعدهم في الكتابة عن أحداث عاشوها وتابعوا تطورها ورصدوا دقائقها بكل ما رافقها من حكايات وقصص، اعتمادا على تقانة المفارقة التي بها تجنبوا الوقوع في مطب التكرار والإعادة، فغدا سردهم لليوميات غير روتيني، بل تكتنفه متغيرات تضفي على الأحداث جاذبية وتحقق لأداء الشخصيات درامية، وبما يجعل استجابة القراء إيجابية.

ومن الروايات الواقعية التي وظفت اليوميات أسلوبا في رصد الواقع، واتخذت من المفارقة وسيلة بها ضمنت لليوميات وتيرة متغيرة لا فتور فيها أو ابتذال رواية(زهر القرابين) للكاتب ناهي العامري والصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء في العراق 2022. وتدور أحداثها حول الانتفاضة الشبابية التي بدأت في أكتوبر 2019 واستمرت لمدة عامين، وبطلتها سولدي أو السيدة والش وهي صحفية نرويجية تكلّفها وكالة الشرق الإخبارية بمهمة تغطية أحداث ثورة تشرين. والتغطية تعني استقصاء كل شاردة وواردة تجري على ارض الواقع من خلال استنطاق الشباب الثائر ودفعهم إلى البوح بآرائهم. وهذا البوح هو الذي جعل الكاتب يعتمد طريقة كتابة اليوميات. وبسبب ذلك تقاسمت البطولة الصحفيان، الأجنبية سولدي والعراقي طالب نادم مظلوم وهو نفسه بطل رواية سابقة للعامري هي (نذير الدرويش) 2019 وفيها يكشف(طالب نادم مظلوم) عن صفقة خطيرة لرؤوس متنفذة، عرّضته للخطف والتعذيب، فدخل مستشفى الأمراض النفسية وخضع لجلسات علاجية. وهو ما يسترجعه السارد العليم في هذه الرواية من خلال يوميات طالب عن أزمة نفسية تعرض لها. وكان لاستعمال المفارقة دور مهم في تدوين اليوميات واسترجاع الذكريات. بدءا من تكليف مدير الوكالة الصحفية سولدي بمهمة الإيفاد إلى بغداد وعندها تتذكر رقيب السلطة زمن الدكتاتورية وما بعدها، وكيف ان لا حرية ستتوفر لها في استقصاء الأسرار والخفايا.

وفي الرواية صور كثيرة لما تناقلته الاخبار والتقارير الصحفية عن أحداث ساحة التحرير في بغداد وساحة الحبوبي في الناصرية، وكان لاستعمال اليوميات دور في نقل تلك الصور التي بها تمكنت الصحفية من الإحاطة بأغلب أحداث الانتفاضة معتمدة في اداء مهمتها على قراءة يوميات طالب.

وأغلب المفارقات في هذه الرواية تحصل بطريقة منسابة ومقرونة بأمر غامض أو صادم. وما دامت في الحياة عيوب لا سبيل إلى فهمها أو إعادة ترتيب أبعادها، فان المفارقة حاصلة لا محالة وهي تترى من خلال ما كان يتعرض له ناشطو ساحة التحرير من تغييب في ظروف مجهولة أو ما كانت سحر وزعيم الشبكة الأمنية يقومان به من إرسال عناصر للتجسس والاندساس بين المتظاهرين. ولعل أهم المفارقات تتمثل في يوميات النسوة النازحات اللاتي اجتمعن في خيمة ساحة التحرير، وراحت كل واحدة منهن تقص حكاية ابنتها(المخطوفة والمعضوضة والمنتحرة).

وأحيانا يستعيض السارد العليم عن صنع المفارقات بإقحام نفسه في تفسير الأحداث حينا أو من خلال استبطان دواخل شخصياته والكشف عن الخفايا حينا آخر. فلا يترك الشخصية حرة في التعبير عن وجهة نظرها وهو ما يجعل المنظور الروائي بالعموم منظورا ايديولوجيا(استلمت السيدة والش من ملحمة جسر الجمهورية التي رواها طالب في يومياته تقريرها الأول الذي عززته بصورة اختارتها من بين الصور النادرة التي جلبها لها إبراهيم) ص67.

ولعل أهم المفارقات تلك التي حصلت بعد توطد الألفة بين الصحفية الأجنبية والصحفي طالب والشباب الثائر، فتتضامن معهم على حساب مهمتها التي من اجلها أوفدت إلى بغداد.

وعلى الرغم من توزيع فصول الرواية بالتوالي بين سولدي 1و2و3 ويوميات الثائر طالب 1و2و3، فان ذلك لم يؤثر على وحدة الحدث الروائي واستمرت اليوميات تترى والحبكة تتصاعد والمفارقات تتعدد وتتفاوت، منها الرومانسي الذي يغلف بإطار عملي جاد، ومنها التراجيدي الذي يغلف بإطار ساخر.

وتتقلب وتيرة سرد اليوميات بلا تكرار، فيخيب أفق توقع القارئ مع كل مفارقة تنطوي على إدهاش وصدمة يصنعهما السارد. والمفارقة الأهم هي التي بها تنتهي الرواية وقد تحول الشباب الثوار إلى قرابين تُنحر على مذبح الوطن من دون مقابل. فالأمور بقيت على حالها وما من تغيير حصل على أرض الواقع. والسبب غدر الغادرين من خلال شبكة المندسين ومؤامراتها المخططة، وهذه النهاية التراجيدية تجعل متن الرواية دالا على عنوانها، وعنوانها دالا عليها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram