TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > البحث العلمي بين الاجترار و التقليد

البحث العلمي بين الاجترار و التقليد

نشر في: 9 مايو, 2023: 11:33 م

د. حبيب آل بحر

يتبادر الى ذهن الباحث الناقد تساؤل مفاده: ماذا يعني التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي تشهده الساحة العلمية اليوم بالنسبة للعلماء و الباحثين العراقيين؟ للإجابة ببساطة على هذا التساؤل؛ فانه من الناحية العملية لا يعني لهم شيء! و لم يقدموا شيئاً بل كل ما قدَّموه كان لأجل منافع مادية شخصية ضيِّقة فقط،

ان المؤسسات العلمية في بلداننا العربية بشكل عام والعراق بشكل خاص لا زالت تعاني من غياب ثمرة البحث العلمي الهادف الذي فيه خدمة فعلية للمجتمع و ذلك لأسباب كثيرة يعزيها البعض الى نقص في ادوات الدعم الحكومي للبحث العلمي وسوء الآلية المتبعة في الدعم من حيث عدم كفاية توفير المستلزمات اللازمة كالأجهزة و المواد المختبرية و قلة المصادر العلمية الحديثة، ومن العوامل الاخرى التي ادت الى فقدان قيمة البحث العلمي الحقيقي هي وجود مكاتب ربحية و دور نشر و مجلات روجت للمتاجرة بالبحث العلمي بالإضافة الى عدم نزاهة التقييم العلمي لتلك الدور والمجلات التي رائحة فسادهم باتت تزكم الأنوف إذ تحتاج الى وقفة و رادع حكومي، وغيرها من الاسباب التي لا يسع المجال لذكرها، لذا فإننا نجد كتابة مقال علمي او رسالة ماجستير او اطروحة دكتوراه او حتى ابتكار جديد حبرٌ على ورق في مؤسساتنا و هذا لا يحقق الهدف المنشود.

ولو سلطنا الضوء فيما يخص موضوعنا على نوع آخر من المشكلات التي نعتقد انها اصل المشكلة و التي ادت الى إبعاد المؤسسة العلمية عن هدفها الحقيقي في كتابة بحث علمي هادف ويمكن ان نحصر ذلك في صنفين من الباحثين:

الصنف الاول يلتزم النمطية و المنهجية القديمة في كتابة البحث و يعتبره موروث ينبغي اتباعه و من سلبياته ان البحوث تتصف بصفة تقليدية في الكتابة و هؤلاء ديدنهم الاجترار و السطحية و التكرار و لكن بأساليب كتابة و هيكلية مُتغايرة. و الصنف الآخر يحاول التقليد في الكتابة البحثية و التقليد عندهم يتوزع بين موضوع البحث و منهجيته و كذلك يصل النقل و التقليد عندهم الى الاسلوب النمطي في الكتابة، وعلى الرغم من ان هؤلاء حظوظهم اكثر من الصنف الاول لامتلاكهم القدرة والامكانية على النشر في المجلات العالمية و ضمن التصنيفات العلمية في سكوبس وكلاريفيت و ذات معاملات التأثير و غيرها من امتيازات النشر الا انهم من الناحية العملية و الواقعية لا يختلفون عن الصنف الاول.

ولو تأملنا في واقع الباحث من كلا الصنفين نجده كثيراً ما يتحاشى التحليل المعمق و التحقيق و النقاش الصريح للأفكار و الدراسات السابقة و ربطها بالدراسات الحديثة لموضوع البحث لذلك لا يستطيع ان يتوصل الى نتائج جديدة و لم يصل الى مستوى الابداع و الابتكار من الناحية الواقعية، فتجده على الدوام يلتزم الحذر والتردد في طرح رأيه الفكري في أي مشكلة بحثية قيد الدراسة و بالتالي فهو قاصر بذاته من هذه الناحية أو بعبارة أدق انه عاجز عن مواجهة التحديات، و للأسف ان هذا النوع من الخضوع قد فرضته الحضارة الاوربية و الامريكية المهيمنة على العالم، فأسَّسوا للعولمة في كل شيء؛ فجعلوا عالمية للثقافة و العلم و التكنولوجيا و اسَّسوا مشروع التقنية الشمولية التي تلغي المسافات المكانية و الخصوصيات الثقافية و البحثية و جعلوا قمة ما يطمح له الباحث العربي ان يقتدِ بهم و هذا المشروع يشكل مرحلة خطيره في ميدان العلم و الثقافة و البحث العلمي و هذه المرحلة تشبه الزلزال الذي يهز المنظومة القيمية و الثقافة العربية على وجه العموم. لذلك نجد بشكل عام بعض المفكرين و العلماء والباحثين العراقيين عندما يطرح فكرة او نظرية جديدة يُقابَل بالاستخفاف و عدم التصديق في اعتبار ان تلك الفكرة جديدة، وأنها لو كانت صحيحة لسبق الى طرحها الغرب، وشاهداً على هذا الأمر فانه من المناسب ان اذكر حادثة حصلت معي في مرحلة البحث ضمن برنامج الدكتوراه في جامعة فلوريدا عندما طلب مني احد الاساتذة (من اصول شرق اوسطية)ان اناقش و اتحقق من دراسة قُدِّمت في ورقة بحثية لمؤلفها "كَلادكوف" حول نموذج رياضي لكي نعتمده في دراستنا البحثية، واني و بعد دراسة معمقة ومستفيضة في التحقيق العلمي اذ كانت النتائج التي توصلت اليها مغايرة لما موجود في ورقة البحث، وتحقَّق لديّ ان وجود حل لذلك النموذج لا يتحقق الا ضمن حدود معلميه غير التي توصل لها كَلادكوف, و بعد ان عرضت نتائجي على الاستاذ و تحقق هو بنفسه و تبين له ان الخطوات البحثية التي قدمتها تسير بشكل رياضي صحيح منطقياً فاندهش و تعجب و توقف عن الكلام قليلاً و تأمل ثم قال "ان صاحب هذا البحث هو من الاسماء اللامعة علمياً(عالم غربي!) و لا أعتقد انه غفل او اخطأ خطَأ كهذا و برَّرَ له وأغلق باب البحث في ذلك!!، وبصراحة فانا لا أجد مبرر لهذا الاجراء غير ما ذكرناه ان الباحثين العرب غلب عليهم التقليد و ليس لديهم زمام المبادرة في الابداع و الابتكار، وذلك لانّهم وضعوا انفسهم تحت الهيمنة الغربية و الغزوا الثقافي الغربي و انا هنا لست بصدد ان انتقد الغرب بل دعوتي للمؤسسات العلمية و وزارة التعليم العالي العراقية ان تنظر في حيثيات المشكلة بشكل جدي، لان الاهمال والتأخير يؤدي الى التراكم و تفاقم المشكلة و النتائج تصبح وخيمة على الناس و المجتمع.

ومن خلال ما تقدم فان تشخيص أغلب ابعاد المشكلة اصبح واضحاً، أي ان هنالك اجترار و تقليد للبحث العلمي من قبل الباحثين العراقيين و اننا نعاني من صراع بين القيم التقليدية و القيم المعاصرة و كلاهما يقف حجر عثرة امام تقدم البحث العلمي، وان دور العلماء و الباحثين العراقيين ينبغي لهم ان يجتنبوا النمطية في التفكير و التقليد الاعمى الذي لا يوصل الى الابداع و الابتكار و على المؤسسات العلمية أن تسعى الى تفعيل الارتباط بين العلم و العمل لان العلم وسيلة الى العمل و ان العلم والعمل موصول احدهما بالآخر للنهوض بمستوى علمي نافع للمجتمع و ان تأسيس بحوث علمية هادفة و نافعة يحقق نتائج ايجابية على الواقع العملي، وان تحفيز النشر البحثي الرصين بشكل فعال من خلال وضع ضوابط خاصة في التقييم و الجودة مع تفعيل و تشجيع النشر في المجلات العراقية على أن يتم حظر النشر في المجلات الربحية، و ان تخضع مجلات النشر العراقية لشروط و معايير عالمية في اختيار المحررين والمقيمين، وان لنا رأياَ بخصوص اللغة المعتمدة في النشر التي ينبغي ان تكون باللغة الأم حصراً وكما معتمد في الكبرى علمياً، مع تفعيل نظام الترجمة من العربية الى اللغات الأجنبية وبالعكس، وتحفيز الباحثين والمختصين على ترجمة الكتب و المراجع المهمة عالميا الى اللغة العربية و ذلك لرسم نظام بحثي و علمي جديد للمحافظة على الخصوصية العلمية و الفكرية العربية، وأملنا كبير بقدراتنا الابداعية الخلّاقة و فكرنا الغني و بأصالتنا المتجذرة في التأريخ، وانه في هذا الوقت بالذات مؤسساتنا و باحثينا مطالبين أكثر من أي وقت مضى برسم مشروع يحافظ على العلم و العلماء و الباحثين و يُحملهم المسؤولية في مواكبة التقدم العلمي و التكنولوجي لوضع خارطة طريق لبناء حضارة علمية هادفة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. السيد عادل

    فعلا هذا هو الواقع العلمي في الدول الشرق اوسطية عموما وفي العراق على وجه الخصوص...

  2. Anonymous

    تحديد المشكلات ضرورة كمقدمة لايجاد الحلول و لكن يعتمد على برنامج حكومي متكامل يهدف الى بناء دولة قوية تواكب التقدم الحاصل

  3. محمد

    احسنت على هذا المقال القيم

  4. ابو حسين

    ماكو فايده من الحجي البحوث حبر على ورق لا مشاريع و تقدم

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram