اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كيف يعمل العالم؟

كيف يعمل العالم؟

نشر في: 9 مايو, 2023: 11:48 م

فاكلاف سمل: الموسوعي المشتغل في حقول معرفية متعددة

لطفية الدليمي

قراءة مدوّنة بل غيتس الرقمية (Gates Notes) متعة وفائدة في الوقت ذاته.

هي مدوّنة نموذجية لرجل أعمال وأحد صُنّاع عصرنا الرقمي، ويشي ترتيب موضوعاتها بإهتمامات الرجل وطرائقه في التفكير والعمل. ربما سيقول البعض أنّ قدراته المالية المليارية تعينه على تنفيذ مايريد من تطلعات وأفكار. هذا صحيح بالطبع؛ فلرائحة المال قدرة عظيمة على الفعل والتأثير في البشر؛ لكنّ المال ليس كل شيء. الأفكار أولاً، والشغف المقترن بأهمية تلك الافكار ثانياً. هذا هو الترتيب الطبيعي، وهو مانلمحه في كتابات بل غيتس في مدوّنته الالكترونية.

ثمّة في مدوّنة غيتس بابٌ مخصّصٌ لمراجعات الكتب التي يقرأها، وهي في مجملها كتب فريدة حقاً. غيتس قارئ نهم من طراز رفيع، وقد كتبت غير مرّة أنّه إعتاد وضع قائمتين صيفية وشتوية، تضمّ الواحدة منهما خمسة كتبٍ قرأها غيتس ورأى فيها أمثلة متفرّدة في القراءة تصلح لتكون كتباً عالمية التأثير. أعترفُ أنّ اختياراته رائعة حقاً، وقد قادتني لإستكشاف مجاهل معرفية وأسماء مؤلفين وكُتّاب عالميين. أحدُ هؤلاء هو فاكلاف سمِلْ: أحد أكابر موسوعيي عصرنا.

يبدو فاكلاف سمل Vaclav Smil مصداقاً لعبارة (وُلِد ليعمل Born to Work). إنه قاطرة عمل بشرية حقيقية وأحد كبار المفكّرين في هذا العالم، وله القدرة على التفكير بالمشخّصات المادية والافكار الموغلة في التجريد. لاتكاد تمرّ سنة أو سنتان – في أقصى الحالات - إلا ونشهد له كتاباً جديداً يحقق أعلى أرقام المبيعات رغم صعوبة مادته وطبيعتها التي تتطلب ذهناً بحثياً مدققاً لايرتاح للقراءات السياحية العابرة. تمتاز كتب سمل بخصيصتين مميزتين: الموسوعية، والعمل على حقول معرفية متعددة. مهارة سمل الاستثنائية تكمن في كيفية ربط هذه الحقول المعرفية بطريقة مدهشة حقاً.

فاكلاف (ويسمى فاتسلاف بالتشيكية) سمل، المولود في تشيكوسلوفاكيا (السابقة) عام 1943، هو أستاذ مميز Emeritus للجغرافيا البشرية ومحلل السياسات الحكومية في قسم البيئة بجامعة مانيتوبا الكندية. تضم قائمة موضوعاته البحثية موضوعات الطاقة والبيئة والغذاء والسكان والدراسات الاقتصادية والتاريخية ومبحث السياسات العامة.

بدأ سمل النشر عام 1976 بكتاب عن سياسات الطاقة في الصين، ثم مضى منذ ذلك الحين في النشر المنتظم حتى تعدّت كتبه المنشورة الخمسين كتاباً، منها كتابه الأحدث المنشور هذا العام (2023) وهو بعنوان (الاختراع والابتكار Invention and Innovation). أودّ الاشارة بالتخصيص إلى ثلاثة كتب لفاكلاف من بين عشرات كتبه:

- تحوّلات عظمى: كيف صُنع العالم الحديث

Grand Transitions: How the Modern World Was Made

نشرته جامعة أكسفورد عام 2021.

- النمو: من العضويات الدقيقة إلى المدن العملاقة

Growth: From Microorganisms to Megacities

نشرته مطبعة MIT عام 2019.

- الطاقة والحضارة: تاريخ

Energy and Civilization: A History

نشرته مطبعة MIT عام 2017، وهو الكتاب الوحيد الذي ترجم لِـ (سمل) إلى العربية ضمن سلسلة مشروع (كلمة).

لكنّ الكتاب الذي سأقدّمُ مراجعة مقتضبة له هو كتاب سمل المنشور عام 2022 بعنوان كيف يعمل العالَمُ حقاً؟ دليل عالِمٍ إلى ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا

How the World Really Works: A Scientist›s Guide to Our Past, Present and Future

الذي نشرته دار نشر بنغوين.

يضمّ الكتاب مقدمة بعنوان (لماذا نحتاج هذا الكتاب؟)، يعقبها سبعة فصول يسعى المؤلف في كل منها لفهم جانب من العالم، وهي على الترتيب: فهم الطاقة، فهم إنتاج الغذاء، فهمُ عالمنا المادي، فهمُ العولمة، فهم المخاطر الوجودية، فهم البيئة، فهم المستقبل. ولما كان سمل مولعاً بالارقام والبيانات فلن ينسى أن يضمّن كتابه ملحقاً عنوانه (فهم الارقام). يختتم سمل كتابه بقائمة مكثفة من المصادر والملاحظات يمكن للقارئ أن يتلمّس منها تخوم العقل الموسوعي الذي يمثله سمل.

لماذا يتوجب على الفرد أن يفهم شيئاً عن الكيفية التي يعمل بها العالم المعاصر؟ ثمة أسباب عديدة يقدمها سمل لذلك:

- العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية شهدت إرتفاعاً ملحوظاً في مستويات المعيشة بصورة غير مسبوقة. صحيحٌ أنّ هذا التقدّم المضطرد في مستويات المعيشة تنقصه العدالة والمساواة؛ لكن لايمكن نكران أنّ أغلبية سكّان العالم نالت شيئاً من هذا التقدّم. لنتذكّر مثلاً الانتاج الوفير للمحاصيل الغذائية الستراتيجية (قمح، ذرة) وكذلك منتجات الحيوان (لحوم، ألبان) وسواها. لايمكن أن ننسى اللقاحات التي جعلت الوباءات العالمية القاتلة شيئاً من الماضي. إنّ الانتفاع الاقصى من هذه الخدمات لابدّ أن يقترن بفهم أساسيات صناعة هذه الخدمات وتأثيرها في تشكيل السياسات العالمية. الفرد الذي له فهم مقبول بهذه الاساسيات هو وحده القادر على تعظيمها واستدامتها وعدم التفريط بها جهلاً أو حماقة أو سوء بصيرة.

- التوسّع غير المسبوق في فهمنا لكلّ من العالم المادي وكلّ أشكال الحياة الاخرى. يكتب سمل بهذا الشأن في مقدمة كتابه:

" باتت معرفتنا تتوسّع من التعميمات العامة الكبرى الخاصة بالنظم المعقّدة على المستوى الكوني نحو النظم الممعنة في الصغر (المستوى الذري ومادون الذري). الدوائر الالكترونية المطبوعة على سطح أحد اكثر المعالجات الدقيقة قوة لها أبعاد لاتتجاوز ضعفي قطر جزئية ال DNA البشري. "

يريد سمل القول أنّ هذه التطوّرات الدقيقة التي تقوم عليها حضارتنا البشرية المعاصرة تتطلب فهماً لأساسياتها التقنية من جانب كل فرد.

لكن لابدّ منذ البدء أن نتساءل – كما فعل سمل في مقدّمته -: لماذا يمتلك معظم الناس، وفي كلّ أرجاء العالم، معرفة سطحية هشة بأساسيات عمل العالم؟ ألأنّهم لايفكّرون؟

كلنا مفكّرون. لماذا؟ لأنّ تلك واحدة من الشروط اللازمة لإدامة الوجود البشري في شكليه البيولوجي والمعرفي. هذا ماقادت إليه سلسلة تطوّرية طويلة. الدماغ البشري يعمل من أول لحظة الوجود وحتى آخر مراحل الانطفاء؛ ولأجل هذا لايعدّ الشخص ميّتاً إلا إذا تحققت شروط (الموت الدماغي). الطفل سيعمل على ترسيخ وجوده البيولوجي بكلّ الوسائل، ثمّ كلما تقدم الانسان في العمر تبدأ الانشغالات المعرفية تزيد مساحة وتأثيراً في حياة الانسان. القانون الاساس في ذلك هو أنّ التفكير يكون أشبه بعملية ميكانيكية (مثل عملية التخاطب باللغة الام قبل الذهاب إلى المدرسة)، ثمّ كلما تقدّم الانسان في العمر تزايدت معه إمكانية إقتران التفكير الميكانيكي بالتفكير الخلاق (أو الابداعي). علام يعتمد هذا الامر؟ يعتمد بالطبع على طبيعة الشخص وبصماته العقلية والنفسية، ومستوى خبراته. ثمة ملمحٌ آخر لهذا النسق التطوّري: العقل الخلاق (الابداعي) ينفرد بميزة قدرته على نقل مديات تفكيره من الملموس المرئي إلى التخوم التجريدية، وهذه واحدة من أثمن الخصائص البشرية، وهي القوة الدافعة لكلّ محرّكات تقدمنا العلمي والتقني.

إنّ مايحاول سمل فعله في سلسلة كتبه هو زحزحة عقل المرء ودفعه لنقل مستوى تفكيره من المستويات العابرة إلى الآفاق العليا التي قد تبدو غير منظورة أو غير ملموسة لكثيرين.

بل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت وأحد أقطاب صانعي العالم الرقمي الحديث، هو أحد أكبر المعجبين بفاكلاف سمل وعقله الموسوعي. كتب غيتس في مدوّنته الالكترونية أنّ كلّ كتاب ينشره سمل هو مصدر إلهام شخصي له. لايكتفي غيتس بالاطراء؛ بل نراه يكتب مراجعة دقيقة للكتاب. إستضاف غيتس مرة فاكلاف سمل وظهر اللقاء في موقع غيتس على الشبكة العالمية: جلسة بسيطة على مائدة صغيرة. غيتس يخاطب سمل: أهلاً صديقي فاكلاف؛ يجيبه سمل: أهلاً بك بل. ثم مضيا يتحاوران بشغف.

قراءة أي كتاب لفاكلاف سمل تمثل تطويراً وإعداداً للعقل الذي يسعى لفهم أساسيات عمل عالمنا. الفهم هو الخطوة الاولى الضرورية للمساهمة في الارتقاء بهذا العالم وعدم الركون في زاوية النسيان واللامبالاة وخذلان الارادة الفردية والجمعية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram