د. قاسم حسين صالح
الحلقة الثالثة
دروس من تجربة سنغافوره
توطئة
تناولت الحلقتان السابقتان اسباب شيوع الفساد في العراق انطلاقا من حقيقة علمية تؤكد انه لا يمكن معالجة اية ظاهرة دون البدء اولا بتشخيص اسباب ظهورها، ثم استقصاءا موثقا بارقام عن حجم الفساد في العراق من عام 2006 لغاية 2022. للوقوف على حجم المشكلة لتحديد نوع وكم الأجراءات التي تتطلبها منهجية معالجتها.
في هذه الحلقة نستعرض بايجاز الأجراءات التي اتخذتها سنغافورة في مكافحة الفساد والوقاية منه بهدف الاستفادة منها فيما يخص الفساد في العراق، آخذين بنظر الأعتبار ان سنغافورة بلد صغير نسبيا ونفوسها اقل من عدد سكان مدينة بغداد، ومع ذلك فأن تجربتها في مكافحة الفساد والوقاية منه تعد نموذجا حقيقيا يمكن تطبيقه او الأفادة منه في أي بلد.
*
تجربة سنغافورة
تتلخص تجربتها الناجحة في إصدارها "قانون مكافحة الفاسد"،و إنشاء "مكتب التحقيق في ممارسة الفساد" بالتزامن مع زيادة رواتب الموظفين الحكوميين. وعزا رئيس وزرائها الأسبق "لي كوان يو" هذا النجاح إلى ثلاثة:
• إصدار قانون متكامل لمحاربة الفساد،
• قيام "مكتب التحقيق في ممارسة الفساد" بمهامه على الوجه الأمثل،
• وتعاون المواطنين في الإبلاغ عن حالات الفساد.
وكان السبب الرئيس الذي ابهر العالم في نجاح التجربة هو الأجراءات الذكية التي اعتمدت في تنفيذ التشريعات التي تضمنها "قانون مكافحة الفساد"..نوجز اهمها بالآتي:
• توفر إرادة سياسية جادة وصادقة وحازمة في اقرار قانون فعاّل وعملي لمكافحة الفساد،
• تأمين نظام قضائي كفوء ونزيه وسريع،
• تأمين جهاز اداري مهني لتنفيذ قرارات القضاء،
• واشاعة الوعي بين المواطنين بان مكافحة الفساد واجب وطني وديني واخلاقي.
وبهدف الوقاية من الفساد، فقد شخص رئيس الوزراء بذكاء وجرأة بقراره في ان يكون لدينا " إدارة نظيفة clean administration، لأننا أصبنا بالاعتلال والمرض بالجشع والفساد وانحطاط كثير من الزعماء الأسيويين،فلقد أصبح المقاتلون من أجل الحرية لشعبهم ناهبين لثرواته،واكدنا من اليوم الذي توليت فيه المنصب، أن كل دولار من الإيرادات سوف يتم المحاسبة والمساءلة عنه على نحو ملائم وسوف يتم توصيله إلى المستفيدين على نحو حقيقي".
وفي ضوء ذلك اعتمدت سنغافورة عددا من الأجراءات، اهمها:
• حصر مهمة كل وزارة بالتخطيط الاستراتيجي للمدى المتوسط والبعيد، وايكال مهمات التنفيذ لهيئات ومؤسسات منشأة بقانون.
• ايقاف دفع الرسوم والغرامات بالعملة، ودفعها الكترونيا،وانشاء ادارة لتعليم المواطنين طريقة الدفع الألكتروني،والحد من تعامل الموظفين بالمال.
• التوسع في تقديم الخدمات بالطريق الالكتروني للتقليل من الاتصال المباشر بين الموظف وطالب الخدمة.
• إنشاء هيئة لمراجعة تاريخ الأفراد قبل توظيفهم لضمان عدم تولي أي شخص لمنصب قيادي أو عمل سياسي بسبب شبهات سابقة بالفساد.
• زيادة مرتبات الموظفين في الدولة بحيث تكفي لتوفير مستوى حياة كريمة، باعتبار أن دفع أجور مرتفعة أهم رادع للفساد.
• منع نشر إشاعات عن حالات فساد دون وجود أدلة واضحة، واعتبار ذلك جريمة في حد ذاته.
• تبسيط الإجراءات الإدارية وتدنية حجم المستندات والوثائق المطلوبة للحصول على الخدمة مع وضع مدونة إجراءات إدارية واضحة.
• التضييق من السلطات التقديرية للإدارة التنفيذية بوضع قوانين ومعايير دقيقة يستند إليها في أدائه لعمله لتفادي المناطق الرمادية.
• تحديد مدة ستة أشهر يجب أن تفصل فيها المحاكم في القضايا المعروضة عليها والخاصة بمكافحة الفساد.
وكان اهم درس في تجربة سنغافورة هو انها قامت بتشكيل هيئة تتبع رئيس الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولى دون غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم. ولا يحق لأي مسئول في الدولة أن يعيق أو يتداخل أو يؤثر على عملية اتخاذ القرار أو التحريات أو التحقيقات التي يقوم بها مكتب التحقيقات(Corrupt practices Investigation Bureau) الذي منحت له كامل الصلاحيات في استدعاء اي فرد مهما كان منصبه في الدولة او ثقله السياسي للمثول امامه والجابة على اية اسئلة او استفسارات.مثال ذلك.. إذا كان أحد الأفراد مسئولاً مدنيـًا راتبه 500 دولار في الشهر ولديه سيارة BMW، ولدى زوجته سيارة مرسيدس، ويمتلك منزلاً بقيمة 5 مليون دولار، فان عليه ان يمثل امام مكتب التحقيقات ويجيب عن سؤال: من أين لك هذا؟. فان ثبت ان ما لديه كان مالا غير مشروعا، فانه تتم مصادرة تلك الأموال وتطبق بحقه قوانين صارمة تعتبر الفساد ليس فقط مجرد جريمة ارتكبها ذلك الشخص، وانما ضد من اعطاه تلك الأموال ايضا.
والجميل في ذلك ان مدير مكتب التحقيق السنغالي "سوه كيى هيينفوري" حدد اجراءات مكافحة الفساد بعشرة، تصدرها اجراء فيه بعد سيكولوجي كان بالنص: (عدم السماح للمفسدين بالتمتع بما حصلوا عليه من مكاسب غير مشروعة،وفضحهم بجعل الناس تنظر لهم بوصفهم عارا على المجتمع).
ان تجربة سنغافورة تعدّ انموذجا في مكافحة الفساد، غير انه لا يصح نقلها كما حدثت، فظروف العراق وحجم الفساد وتنوع قواه السياسية وتعدد الفصائل المقاتلة وظروفه الأمنية وتدخلات دول الجوار وقوى عالمية ومتغيرات اخرى، تحول دون تطبيقها كما حدثت. غير ان هنالك مباديء رئيسة ينبغي الألتزام بها يتصدرها مطلب اساسي يتمثل بأن تكون هنالك نية صادقة ونزاهة كاملة وحزم صارم... ومشروع علمي لمن يتصدى لأخطر ظاهرة واعقدها في تاريخ العراق السياسي.