لطفية الدليمي
أعترفُ منذ البدء أنّ عنوان موضوعي هذا ينطوي على شيء من المخاتلة المقصودة. عندما أختصرُ تجربتي في الكتابة الصحفية بعشر سنوات فهذه مَظْلَمَةٌ والتفاف بيّن على الحقيقة؛
فقد بدأتُ كتابتي الصحفية بمنشورات متفرّقة منذ أواسط سبعينات القرن الماضي وأنا لم أزل أعملُ في الحقل التعليمي، ثمّ حصلت الانعطافة الكبرى في حياتي المهنية عندما إنتقلتُ إلى العمل في الحقل الثقافي عند أواخر سبعينات القرن الماضي. إذن لماذا أختزلُ كتابتي الصحفية بعشر سنوات؟ الجواب يكمنُ في أنني أقصدُ بكتابتي الصحفية تلك السنوات التي شرعتُ فيها بكتابة مقالة اسبوعية منتظمة، ثم ترافق مع المقالة موضوع أسبوعي مكتوب أو مترجم.
حصل هذا الأمر مع تجربتي في صحيفة (المدى). شرعتُ أولاً منذ عام 2009 بكتابة مقالة أسبوعية كلّ يوم أحد، ثم أضفتُ لهذه المقالة موضوعاً أربعائياً منذ عام 2012. صارت المقالة والموضوع جزءاً من تكويني الذهني والنفسي حدّ أنني عندما أنشرُ مقالتي في صفحتي الفيسبوكية أقرنها منذ البدء بالعبارة الشرطية (مقالتي ليوم الاحد)، وكذا الامر مع موضوعي الذي أصفه بعبارة (موضوعي الاربعائي). من المهم هنا أن أشير لحقيقة أنّ هذه الممارسة المنضبطة في الكتابة الصحفية للمدى لم تأتِ على حساب تحجيم قراءاتي وتآليفي وترجماتي. المثير في الامر أنّ العكس هو ماحصل؛ إذ تعاظمت مؤلفاتي وترجماتي مثلما تنوّعَتْ قراءاتي واطلاعاتي على الصحافة العربية والعالمية فضلاً عن المنشورات الحديثة للكتب في موقع (أمازون).
التقليد الكتابي المنضبط مهمّة شاقة للغاية. صحيحٌ أنها تتحوّلُ مع مرّ السنوات إلى أمرٍ أقرب مايكون لهواية ممتعة؛ لكنّ المتعة لاينبغي أن تحجب المشقة.
كتبتُ في موضوع سابق لي نُشِر في (المدى) أنّ الروائية الايطالية إيلينا فيرانتي Elena Ferrante، مؤلفة الرباعية النابولية، جرّبت كتابة مادة صحفية أقرب لعمود أسبوعي في صحيفة الغارديان البريطانية ذائعة الصيت. وفّرت لها الصحيفة كل أسباب الدعم والانتشار، ومن ذلك مثلاً نَشْرُ مادتها الاسبوعية كل يوم سبت، وهو يوم عطلة أسبوعية يتشجع فيها الناس على القراءة. لم تتحمل فيرانتي الكتابة أكثر من عام واحد (هو عام 2019)، وأنهت ذلك الواجب الاسبوعي بكتابة مقالة أخيرة أبدت فيها السبب الذي دفعها للإنكفاء عن فعل الكتابة، وفحوى ذلك السبب أنها إعتادت مكابدة فعل القلق والترقب والانتظار عقب نشر كل رواية جديدة لها، وهو مايحصل كلّ بضع سنوات تكون خلالها منصرفة للكتابة من غير ضغوطات معيقة؛ أما الكتابة الأسبوعية لها في صحيفة عالمية فكانت أشبه بكابوس لم تعُد تطيق تبعاته؛ إذ ماأن يُنشَر لها عمود جديد حتى تقع فريسة عبئين إثنين: ملاحقة ردات أفعال القرّاء على مقالتها، والتفكير بمقالتها الجديدة في الأسبوع اللاحق. ليس ثمة من فسحة للاستجمام الذهني والاسترخاء النفسي أبداً مع أي شكل من أشكال الفعاليات الثقافية الأسبوعية المكتوبة للصحافة.
أعرفُ تماماً ماالذي عنته فيرانتي بالضغوطات الهائلة التي صارت فريسة لها مُذْ راحت تكتب مقالتها الاسبوعية. كتابة مقالة تنطوي على فكرة أصيلة وبطريقة تقع في نطاق المقبول من الأعراف الصحفية للكتابة أمرٌ في غاية المشقة ويتطلّبُ كداّ عقلياً ليس بقليل أبداً. المقالة الاسبوعية، وبخاصة تلك التي يكتبها كاتب له صنعةٌ إبداعية، تتطلّبُ نمطاً من الكتابة التي تحقق شرط ثنائية المزاوجة المتناغمة بين النَفَس الابداعي وطرائق الكتابة الصحفية حيث الاختزال وطَرْقُ الافكار من غير مواربة في إطار حيّز محدود. الصحافة تعلمك فنّ الاختزال وبلوغ المقصود بأكثر الطرق إقتصادية ومباشرة؛ لكنّ المباشرة هنا هي المقاربة الصعبة لأنك لاتريد تحويل الموضوع إلى حديث في مقهى شعبي.
تجول بخاطري المعاناة التي أسهبت فيرانتي في وصفها كلّما جلستُ لكتابة مقالة اسبوعية أو موضوع أسبوعي لي. أكادُ أقولُ – بيقين - أنّ الكتابة الصحفية الاسبوعية هي بعضُ أسباب سعادتي في هذه الحياة؛ ولعلها السبب الأكبر لها. الكتابة كنزُ سعادة لاينضب لمن عرف مسرّاتها وقدراتها الحقيقية والميتافيزيقية، وهي بهذا الوصف تصبح عند بعض البشر قرينة الوجود الانساني النبيل والمكتمل. تبدو لي الكتابة الحقيقية - والمعرفة بعامة - مثل نبع ماء أزلي كلّما شربنا منه إزددنا ظمأ ورغبة في إستكشاف المجهول. لاالظمأ يخفُّ ولاالمعرفة تتضاءل ولاالشغف يخفت، ورقعة المجهول تزداد اتساعاً وبعثاً للرهبة في عقل الكاتب والقارئ معاً.
تعلّمتُ من كتابتي الصحفية الاسبوعية المنتظمة ثلاثة أمور في غاية الاهمية:
الاوّل: الانضباطDscipline. عرفتُ عقب عَقْدٍ وبعض العقد من هذه الكتابة أية نتائج ساحرة تأتي مع الانضباط في الكتابة. مع الزمن سيصبح ماقد يبدو فعالية قسرية بادئ الامر أقرب لفعل يمتاز بتلقائية عجيبة. الآن صرتُ أعرفُ مايعنيه بعضُ الكُتّاب بالانضباط المصاحب للكتابة. كنتُ أقرأ أنّ بعض هؤلاء درّب نفسه على كتابة ثلاثة آلاف كلمة يومياً، وكنتُ أعجبُ لهذا الامر وحتى أمقته أحياناً. اليوم تغيّرت رؤيتي له. الانضباط اليومي يخلق عند الفرد دافعية للكتابة المتدفقة التلقائية الواضحة والرصينة.
الثاني: الحياة كلها ثقافة. ليست الثقافة أدباً (تقليدياً) وشعراً وحكايات وقصصاً قصيرة. كلّ فعالية بشرية هي بالضرورة مقترنة بخصيصة ثقافية.
الثالث: السباحة في رغوات لغوية هي ثقافة غير منتجة.
تعلّمتُ خلال هذه الرحلة في الكتابة الصحفية أن أتحاشى أنماطاً محدّدة من الكتابة. تعلّمتُ النفور من الكتابة المشاكسة التي لاتنطوي على عناصر فكرية واضحة بل تسعى لفعل التشاكس لذاته وتأنسُ له. ثمة كُتّابٌ يأنسون لإستثارة المشاكسات تطلعاً لمعارك ثقافية كتلك التي كانت تنشأ بين المثقفين الكلاسيكيين العرب قبل بضعة عقود. أنا لستُ من هؤلاء ولاشأن لي بهم من قريب أو بعيد. تعلّمتُ أيضاً الانطلاق في الكتابة من فكرة محدّدة ستنضج حتماً مع بدء الكتابة والمضي في تفاصيلها الدقيقة؛ أما الكتابة من غير فكرة، أو البدء من فكرة هوائية عائمة!! فتلك ستراتيجية كتابية لاتنتج سوى كتلة لغوية سائلة لن تخدم القارئ ولاتُثري ذائقته الفكرية. تعلّمتُ أمراً ثالثاً: عدمُ الكتابة تعقيباً أو إستطراداً على أمر يومي أو حدث محلي أو عالمي إلا بمقدار مايصلح لأن يكون عنصراً ثقافياً إثرائياً. الكاتب الثقافي ليس مراسلاَ صحفياً يعلّقُ على الأحداث. ليس أسهلَ على الكاتب من مطالعة صحيفة وقراءة بعض الاحداث (وبخاصة ذات الطبيعة الفضائحية) ومن ثمّ تحويلها لمادة صحفية. أنا لم ولن أفعل هذا الامر، ولاأحسبه مادة تستحقُّ فضيلة انتمائها للثقافة الانسانية. كلّ كاتب يتعكّز على مثل هذه الاحداث ويجعلها مادة مباشرة له من غير تشريحها بمبضعه الثقافي أظنّه يداري كسلاً مزمناً فيه.
الكتابة الثقافية المنتظمة في الصحافة مدرسة حقيقية يتعلّمُ فيها الكاتبُ ذاتياً تفاصيل لاأحسبُ أنّ له القدرة على تعلّمها في مكان آخر أو في سياق آخر أو بوسائل أخرى.