حيدر المحسن
هنالك أشخاص يرغمونك على الاعتراف بأن الناس جميعاً ينحدرون من أم وأب واحد هو آدم، وعلى هذا فهم إخوة لك. الدّكتور فليح حسن الحداد أخ لك إذن، وبسبب فارق العمر، فهو أخوك الأكبر. تجلس معه وتشعر أن وحدتك صارت أقلّ، وعالمك صار أكثر، وحياتك يمكن أن يكون لها، بعد كلّ شيءٍ، معنى.
وجه غريب يشبه تعويذة، وكتفان عريضتان وعاليتان تجعلانك تفكّر أن لقب الحدّاد الذي يحمله هذا الطّبيب المفكّر لم يكن اعتباطاً. ثم تكتشف بعد قليل أنك كسبتَ صديقاً تظنّ أن بدنه يكاد يمتزج مع ظلّه الذي يعكسه من حوله، فيتشابهان، ويتبادلان الدور؛ جسد عظيم لكن خفيفٌ على القلب، وظلّ واسع كأنّه لجبل، والمرء أولا وأخيرا ليس سوى صورته بعين إله الشمس، يرسمها له على الأرض، والآلهة لا تغبن أحدا حقّه.
تعرّفت على فليح الحدّاد في التسعينات، وكان شيخاً تعدّى السبعين بساقين قويّتين، بينما كنت أخطو نحو عامي الثلاثين براحة كاملة مع النّفس ومعنويّات عالية، وكنّا نعمل طبيبَين في غرفتين متجاورتين في مبنى يقع في حيّ الخليج، المشهور باسم بغداد الجديدة. كان الناس المبتلون بالأمراض يأتون إليه من جميع أصقاع البلاد، ويُشفي لهم تسعة وتسعين بالمئة من أسقامهم، لكن من يقدر على استئصال شأفة الواحد بالمئة المتبقّي؟ يغنّي لهم، أو يقرأ الشّعر، أو يُسمعهم كلاماً خشناً يتحوّل حين يُلبسه صوته ما لذّ من كلام، أو لا هذا ولا ذاك، بمجرّد أن تقع عينا المريض على وجه الحكيم، فإن ما فيه من سيماء السّحرة سوف يشفيه لا محالة من سابع الأمراض: قامة منتصبة وفيرة الدم، وجهٌ بهيئة مرآة، وله سحنةٌ كأنّما شويت بالنّار حتّى نضجت، وعينان صغيرتان مزروعتان في محجريْهما العميقين تعكسان في وقت واحد بريق الاندهاش والمكر، وجه أقرب إلى عرّاف بدَلَ حكيم. يتحدّث، ويأتيك صوته الخشِن بنبرة بغداديّة من بين شفتين ثخينتين دسمتين فيهما ظمأ وجوع شديدين إلى الطّعام والشّراب والكلام وكلّ ما في الوجود، كلّ شيء... رُوي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قُدِّمت إليه في أحد الأيام مع الطعام بيضةٌ ساخنة يشربها ويمضغها، فقال إني أرى الدنيا في هذه البيضة.
كنتُ أقرع الجدار الذي يفصل بيننا بقبضتي، أو يطرقه الدكتور الحدّاد عليّ بيده عندما يحين وقت الفسحة التي تتركها لنا زحمة العمل، نجتمع عندها مثل شيخٍ مع ابنه الذي يُكثر له الودّ، يتعلّم منه الطبّ والشعر والحكمة. إنهما يكادان بمرور السنين يتشابهان إلى حدّ أن جانب الشيخ هو جانب الشابّ، وكذلك تضاريس الفِكر وطريقة العيش.
ومثلما كان فليح الحدّاد مختلفاً عن الجميع، كان بيته مستحيلاً هو الآخر. إلى هذه الدارة الفريدة كان يحجّ أصدقاؤه السماويّون، ومنهم العازف والرسّام والممثّلة والقاصّة والمغنّي والسياسيّ، وكذلك الطبيب. وكان يبدو للجميع بحجمه الغريب وصلعته المديدة كأنه كائن مسترجع من جُبّ الماضي، حيث كان يعيش العماليق والعفاريت والجانّ، وكذلك هياكل القمر. الحيطان في البيت تزيّنها لوحات فائق حسن وجواد سليم وضياء العزاوي وغيرهم، أو أنها محجوبة بالكامل برفوف الكتب، والمائدة تئنّ من ثقل ما تحمله من طعام وشراب، والجميع يقضّون السّهرة في بوهيميّة رّصينة لا تُثقلُ على أحد فتأخذ من رزانته وحِلمَه. تدور دورة اللّيل مع الأحاديث والعزف والشِعر والتمثيل والغناء، وحين تحلّ الساعة الرابعة فجرا، تُقدّمُ الوجبة الأخيرة: كاهي (خبزٌ محمّصٌ مبلّل بعصير السُكّر) مع قيمر. من كان يستطيع في هذه الجنة أن يلتقط ولو نفساً واحداً يشبه ما لبقية البشر و "أبو علي" يتلو قصيدة "حِسْنِ الشّموس" لمظفر النوّاب عن ظهر قلب:
أطرّنْ هورْها امصكّكْ
واصيّحْهِنْ عليكْ اِجْروحْ
حِسَنْ يَبْنِي... حِسَنْ
جِبْنَه عروسَكْ يا حِسَنْ
خُبزَةْ دِهِنْ حِلوَهْ
حِسَن يبني... الشّمسْ صاغتْ خِشِلها
ودَكّت النجمة نفسها ابطارِفِ الغُطوَهْ