ستار كاووش
يشرق بعض الناس ويتضح جوهرهم من أول وهلة، حيث تتقارب المسافات بينك وبينهم دون فواصل أو تعقيدات. فتجد نفسك واقفاً أمام الجمال الحقيقي للإنسان بلا صعوبات ولا حواجز، كما وجدتُ نفسي صحبة صديقي الكاتب والشاعر زهير كريم في بروكسل،
الذي أشرق أمامي وهو يفتح قلبه وذراعيه مبتسماً لنمضي بين شوارع وأرصفة مدينة الجمال وعاصمة الإتحاد الأوروبي. ياللصديق الذي توهج منذ اللحظات الأولى من خلال إلتماعة عينيه وكلماته وتعبيراته التي يحرك معها يديه مبتهجاً ومشيراً الى مكامن الجمال في زوايا المدينة. وكلما إمتَدَّ بنا اللقاء، تيقنتُ من السبب الذي يجعل كتاباته ساحرة وينبوع إبداعه ينثال عِبرَ كلماته التي تشبه الذهب وروحه العالية التي لا يغطيها غبار الزمن ولا تُعيقها أبواب الغربة.
كان موعدنا مع زهير في ساحة البورصة التي تبعد نصف ساعة مشياً عن البيت الذي نقضي فيه إجازتنا أنا وأليس بمدينة بروكسل. قررنا أن نخرج للموعد مبكرين، كي نقطع بعض الطرقات للاطلاع على جانب من ملامح هذه المدينة الجميلة المزدحمة. وحين وصلنا الى ساحة البورصة التي تحيط جوانبها الكثير من المصاطب، كانت خطوات الناس تتقاطع وتأخذ معها الكثير من المواعيد واللقاءات والإنتظارات، كذلك الصداقات التي يستعيدها الكثيرون في هذه الساحة الشهيرة، سواء قرب ذلك الجدار أو على تلكَ المصطبة. وقفتُ وسط الساحة متلفتاً نحو جهاتها الأربع التي إكتظت بالناس، باحثاً عن الجهة التي سيأتي منها صديقي، ليطلَّ زهير فجأة من السلم الكهربائي، خارجاً من محطة المترو، وقد إلتمع شعره الرمادي تحت ضوء الشمس الربيعية التي بدأت بالشروق، لتتضح ملامحه أكثر كلما إرتقى به السلم الى الأعلى. كان بصحبته الفنان حمدان السراي، وهناك مضينا في دروب بروكسل وتصفحنا منعطفاتها الشبيهة بكتاب للقصص المصورة. قطعنا بعض الشوارع المزدحمة تحيطنا رائحة الشوكولاتة من كل الجهات، وهي أشهر ما يصادفك هنا، حيث تـُعتبر احدى أسس الحياة والثقافة البلجيكية، لنصل بعدها الى ساحة خروته ماركت ومعناها السوق الكبير، وفجأة مَدَّ زهير يده مشيراً الى واجهة بناية إكتَسَتْ بلون ذهبي براق، قائلاً (هل ترى تلك النوافذ الملتمعة؟ هنا كان يعيش ماركس). نمضي قليلاً، فيومئ زهير نحو الجهة الأخرى من الساحة، موضحاً بطريقة من يعرف مدينته جيداً وخبرَ تاريخها ودروبها (وهناك في تلك البناية الشاهقة، قضى الشاعر رامبو بعض الوقت مع صديقه بول فيرلين، وخلفَ تلك النافذة أطلقَ عليه فيرلين النار سنة ١٨٧٣ في تلك الحادثة الشهيرة في تاريخ الأدب). مضينا وسط بروكسل، وقد مَنَحَنا زهير كل وقته بروح مُحبة وكرم عال، تحدثنا عن القصة القصيرة وإستحضرنا الأصدقاء وتنقلنا بين ذكريات المدن والجولات الابداعية التي تربط هولندا وبلجيكا وكإنهما بلد واحد من الناحية الثقافية والتاريخية. مقهى صغيرة كانت ملاذنا بعد تلك الجولة، حيث عَلَتْ الأحاديث والإستذكارات والأسئلة التي لم يقطعها سوى إبتسامة النادلة الجميلة التي أحضرت لنا الطلبات، قبلَ أن تمرر جهاز السكنر الصغير الذي بيدها فوق الكود الموجود على الطاولة، لتعرف من خلاله ثمن الطلبات، كما يحدث في المدن الكبيرة.
في اليوم التالي بعد الإنتهاء من زيارة متحف الفنان رينيه ماغريت، كان هناك موعداً جديداً مع زهير في ساحة لويزا، لنقطع بعدها بعض الشوارع، حتى وصلنا الى مقهى (براسيري فيرسخورن) التي تفتح أبوابها منذ سنة ١٨٨٠ دون توقف، حيث إفترشت طاولاتها على مساحة واسعة في الداخل والخارج، وإمتلأت بالناس الذين تداخلت كلماتهم بين الفرنسية والهولندية والانجليزية. جلب لنا زهير شراب الجونجومبر، الذي هو خليط من الزنجبيل والليمون مع قليل من العسل، وهو يعدد مزاياه وفوائده ومذاقه الطيب، ليمتزج طعم ذلك الشراب مع حديثنا عن القصة وفن السرد والعمود الصحفي، ويكتمل اللقاء بإهداءه لي روايتين من رواياته هما قصر الصبار وخيوط الزعفران.
مرت الأيام بسرعة بين مقاهي بروكسل التي تعطرت ببصمات الزمن، وبناياتها التي تعيدنا الى عصر الباروك، ومتاحفها المهمة التي سأكتب عنها لاحقاً، وقد حانَ موعد عودتنا الى هولندا. مضينا نحو محطة القطار، وهناك شعرتُ بأني قد تركت خلفي صديقاً ثميناً جداً، وقد إستذكرته مرات ومرات في القطار المنطلق نحو الشمال. لقد كان زهير مرآة بروكسل بالنسبة لي، حيث رأيتُ كل شيء جميل من خلال هذا الإنسان المحمل بالعاطفة والبساطة، والصديق المليء بالطاقة التي تتحول الى كرم واحتفاء، والكاتب الزاخر بالنباهة التي تصير معبراً للجمال، وحتى الهدوء الذي يغلف ملامحه، هو بمثابة فسحة للتفكير بالخطوة القادمة ومد يد العون.
بعدَ عودتنا الى هولندا مباشرة، ذهبت أليس واشترت الزنجبيل والليمون وطلبت مني تحضير نفس الشراب الذي جلبه لنا زهير في مقهى بروكسل. وهكذا شمرت عن ساعديَّ وجهزتُ الشراب، ثم أضفت له ملعقة من دبس التمر العراقي الذي حصلنا عليه من زهير وزوجته فاطمة، ليكونا بذلك حاضران معنا في هولندا. أكتب الآن وصورة صديقي زهير مازالت ماثلة أمامي حيث عيناه الذكيتان والطيبتان ويداه اللتان تتحركان بتلقائية وهما توضحان ما تعجز عنه الكلمات… تماماً كما تعجز كلماتي الآن بالتعبير عن إمتناني له.