TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > خديعة التاريخ

خديعة التاريخ

نشر في: 23 مايو, 2023: 11:24 م

ياسين طه حافظ

هو حق للأمم والشعوب بان تفخر بما تراه مجداً او تراه حضارة وتفوقاً على ما يجاورهم او يجاورها، او على ما كان عليه العالم.

لنا مثل غيرنا هذا الحق. وحقيقة الامر نحن لم نُحرَم حقنا هذا يوماً. على العكس تماما افرطنا وغالينا في الثناء والتمجيد. ومع ادراك العقلاء والمفكرين او الذين هم على علم بما كانت عليه الامة وادراكهم لما كانت عليه حال الادارة والحكم وحتى حال العيش والكسب، وكم من المؤسفات والعيوب كانت، الا ان التمجيد المتوارث أو الارتياح بأن لنا بلاداً كانت بخير وشعبنا وافراد الامة كانوا في ازمنة خصيبة قشيبة منعمة بالعيش كما بالعدالة واحترام الحقوق، وتجيء امثلة عن هذا الخليفة الذي حمل الابريق ليغسل العالِمُ يديه، وذلك الذي يتكر ويتفقد الرعية يخشى ان يكون في خلافته او سلطانه جائع او محتاج او مظلوم، الى آخر هذه الحكايا المصنوعة ونسج الدعاة من كتبة الخليفة ومواليه. وهذه، ما وُجِدت أمثلةً الا لتعوض عن انعدام أو ندرة أو لتكون أمنيات. والا فهذا الخليفة او الحاكم، حامل الابريق لخدمة العالم، هل تعلم كم عالِماً قتل وكم مخالف له من الاخيار واصحاب الرأي سفك دمه؟ وهل تعلم وهل يعلم الناس، كم من الجياع والمعوزين كانوا في زمنه وكم هو أهرق من مال على لذائذهِ وماذا كان يجري في قصوره؟ الا يكفينا ان نعرف بأن عالماً جليلاً يبهجه أن يمن عليه الحاكم بخلعة (ثوب) وبضعة دراهم؟ هنا اثنان كرمٌ وبذخ وهناك بؤس يومي وسوء حال. على من يستمع أو يقرأ مثل تلك الاقاويل أو الحكايا ان يسأل نفسه عن حال (العامّة) وأي بؤس كان بؤس الرعية؟ حال التاريخ يصف حواضر الحكم والنفوذ، عواصم و مقرات حكم وقصور وكأن تلك المدن باقواسها وقبابها تطفح امجاداً ومسرات.

لا شيء من هذا أبداً الحقيقة غير هذه اذا ابعدنا قصور الحكام او الخلفاء او السلاطين والولاة وبطاناتهم فخارجها الجند والعامّة الجائعة المعوزة التي تشقى لتكسب خبزها وتتمنى العطية ان تنحرف اليها او يجود عليهم أحد بما يعينهم على العيش، والعيش في أدنى مستوياته. وما كانوا، كما يقولون، يرفلون بالحرير الدمشقي فلا حرير للناس ولا استبرق، واذا فقد الثوب الخشونة فتلك نعمة. وما كانت بيوت العامة كتلك التي تتحدث عنها الاخبار وصارت من بعد شواهد تدهشنا في الاثار. لا يا سادتي لم تكن هذه بيوت الناس هذه اثار بيوت ملوك – آلهة ثم ملوك طواغيت أو خلفاء يوصون بالدين والتقوى واسرافهم لا حد له في الملذات.

حتى معلمو اليوم يتحدثون عن المجد الباذخ والالق الوهاج والعصر الذهبي. أظننا وصلنا حداً من الوعي ومن احترام الحقيقة لنتجرأ على القول ان طرقنا اليوم أفضل وخبزنا اليوم أفضل وعيشنا واطمئنانا أفضل ودواؤنا افضل ومشافينا وعمراننا أفضل ورعاية اسوء حكوماتنا للناس أفضل كثيراً مما يكذب ويقول لنا التاريخ عن الحكام والسلاطين.

لم يكن التاريخ، لم يكن ناس المدن باذخي الثراء والنعم ومتمتعين بالعدالة ولم يكن الناس آمنين وفي رغد كما تقول تلك الكتب وينقل ما تقول الكتب معلمو او رواة التاريخ. نعم في التاريخ نقاط مضيئة ولكن قلتها لا تتناسب وما في التاريخ من ظلم وجوع ومجازر واشكال موت. بغداد اليوم، ومهما تكن هي أفضل مرات واجمل واوسع من بغداد القديمة، القديمة الحقيقية، لا التي يتحدث عنها الرواة في كتب التاريخ. فهناك الكثير مما يفضح الزيف والكذب. حال العامة كان حالاً مزرياً، وغالباً ما كان فاجعاً ومخيفاً أحياناً. أما ان تكون بغداد أفضل من سواها في زمنها والرشيد أو غير الرشيد أفضل من سواه، فهذا حتى اذا صحّ، فليس كافيا لنعيد الفهم أو ليغير من واقع ومن أنظمة ومن ظروف تخلّف كانت. ليس صحيحاً ولا محموداً ان تمس التاريخ بضوء من الشعر العاطفي والانحيازات القومية أو المذهبية. احترموا الحضارة ومستواها، الحضارة اليوم مقارنة بتلك. احترموا ما احرز الانسان من تقدم مدني وقولوا: "كفا لخديعة التاريخ"!

ان فهماً موضوعياً وتقديراً لمستوى التحضر في تلك العصور، يوجب ان لا نعطي الامور اكثر من حقها، أكثر من حجمها الذي تسمح به تلك الظروف ولا تسحبنا المفاخر والاساطير. أي مقارنة ممكنة بين الطب وتخصصاته واجهزته اليوم وطب الامس؟ ومحكمة اليوم بقضاتها وادعائها ومحاميها بقاضي الامس يجلس ويحكم، يشترك في حكمه خليط الذكاء والغباء والنسيان والمزاج والكثير مما يضعف الرغبة في العدل حتى يريد المظلوم ان ينجو بنفسه خشية ما قد يزل به لسان القاضي الذي لا مرد له. وأي مقارنة بين جامعات العصر ومكتباتها ومختبراتها وما كانت عليه الدراسة او الدرس؟ الاستثناءات محترمة. كانت المستنصرية القديمة، كانت القيروان، كانت، كانت، ولكنها أمثلة معدودة. وعلى مزاياها فهي متواضعة بالنسبة لجامعات اليوم.

يوما كنت في ندوة عن فن العمارة وعن ضرورة الاحتفاظ بالهوية وبالسمات او والملامح التراثية، بالصفاة العظيمة التي تبهج وترسم مجدا. هذا ما انا احترمه ايضا لكن الاحترام لا يغلق اعيننا عن جديد العالم عن رؤية الحضارة اليوم عن ضرورات التجديد والتغيير وألا تتحول دعوتنا الطيبة البريئة تلك الى دعوة للتخلف والبقاء على الحال بحجة الحفاظ على ما لا نريد خسارته. نحن نحترم القديم أكثر ونستوعبه اكثر ونفهمه أكثر عندما نتقدم وننظر إليه!

في تلك الندوة اصغيت الى ناس افاضل لهم الاحترام وهم بنيّات طيبة يؤكدون على ذلك. لكن ما يجب في العمارة الجديدة في رأيهم؟ الاقواس، القباب وبعد ذلك؟ هل فكر احد بتصميم على شكل سفينة فضاء مثلاً، بوصلة من خلال نجمة او وردة تشع؟ وماذا تقولون اليوم وانتم ترون بناية البنك المركزي بعبقرية زها حديد؟ هل نضع لها اقواساً وقبة لتكون لنا؟

الاقواس جميلة والقباب اجمل بالمساجد والمراقد وكما هي اسلامية، هناك ايضا اقواس وقباب في الكنائس الحديثة والقديمة والرومانية ولو اختلفت قليلاً. البشرية في المدى العقلي والفني والايماني غالباً واحدة، الا فوارق بسيطة في التفاصيل.

لا تسمحوا للتاريخ بالمزيد من خداعنا واخفاء او تزوير الحقائق عنا. ولا ليمنعنا عن الاتصال بالانسانية العظيمة الواسعة. هل اذكركم بالقول العظيم لعلي؟ أي شخصية عظيمة كان! قدْرَ ما امتلكَ ادراكاً انسانياً حملَ حزناً! وحملَ حزناً لأنه رأى سوءاً ومفاسد. تلك اذن حقيقة ذلك الواقع!

في قراءة "بحثية" لنهج البلاغة نرى العيوب الاجتماعية وفساد الناس والذمم و "محنة الرائي"! وفي قراءتنا المتفحصة للتاريخ نرى في أي بؤس ومظالم ومتاه كان يعيش الناس وهم يريدون قوةً وسلامةً ورضا. كانت التعاسة سائدة لولا بضعة قصور ومناطق محجوزة لمن يحكمون ولمن يحرسونهم ويوالونهم ويخدمونهم ويسلطون سيوفهم على الناس. واعدادهم المعدودة مهما كثرت لا تغير من البؤس الشامل ورداءة الطرق والبيوت وفقرها. أما التائهون في القفار والقابعون في الخيام والسقائف فهم الذين يقولون للتاريخ أيها التاريخ لا تكذب! وكفا خداعاً! كانت بيوت (العامّة) اشبه بالعشوائيات اليوم.

الحقيقة غير ما تلهج به الناس اليوم من رفاه وأمجاد كانت، يتمنى أناس مخدوعون منا العودة لها تاركين المدن المضاءة بالكهرباء والسيارات والمستشفيات الحديثة والمطاعم والاسواق وانواع الطعام الذي يأكلون. الرداءات الاجتماعية في كل العصور، ولكن حضارة اليوم غير ما في الازمنة التالفة. تعاسات الماضي تحول في الروايات اضواءً ساطعة وذهب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القضاء يأمر بالقبض على نور زهير ويمهل الكفلاء 13 يوماً لجلبه

بسبب تعطيل مجلس نينوى.. نائب رئيسه يعلن استعداده للاستقالة!

الأنواء الجوية: انخفاض درجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

عالمياً.. النفط يعود للانخفاض بعد 3 جلسات من الارتفاع

السوداني يبدأ زيارة رسمية إلى مصر وتونس

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram