حيدر المحسن
"أحيانا أنعتُ نفسي بالريح
وأخرى بنافذة توصدها الريح"
لا يصحّ هذا النوع من الوجود إلاّ في الأحلام التي يمكن أن تودي بصاحبها إلى شفا الجنون، ويصحّ كذلك في دنيا الشعر. من يقرأ المجموعة الشعرية "ضيف" للشاعر هاتف جنابي يجد أن المخيّلة لديه ثرّة وخاضعة للنّغم، لكن لا وجود للصّنج العالي، كما أن الإيقاع منتظم، وخافت للغاية، ويبلغك فقط عندما تقف على عتبة النّصّ، ويشدّ انتباهك بين حين وآخر صمت خافت يتكوّن من فراغ يتركه الشّاعر في داخل البيت، يختلف طوله بين نقرة واحدة من ريشة الحاسوب، أو نقرتين أو ثلاثة، حسب ما يتطلّبه ضبط الإيقاع في السّطر الشّعريّ، وفي القصيدة كاملة. المعروف أن سعدي يوسف كان يترك فراغات تتخلّل القصيدة لها طول وعرض محدّدان، هو ثلاثة أسطر أو أبيات، وكانت الضرورة لها بنائية، وليست إيقاعيّة مثلما يحدث في قصائد هاتف جنابي: لم يكن ما رأيناه من سُحب قانية في تخوم السماء () سوى قطراتِ قلوبٍ رمتها سهامُ القطيعة التقويس غير موجود في المتن، واخترته هنا لأجل تبيين مساحة الفراغ الذي تَقَصَّدَه الشّاعر للدلالة على اهتمامه بموسيقى الأحرف، لأن الفروق النّغمية في النصّ وإن ضَؤُلت لكنها تغيّر في المعنى، أو تزيد في عمقه وسعته. كان الفارابي يرى أن الشعر والموسيقى يرجعان إلى جنس واحد هو التأليف والوزن، والمناسبة بين الحركة والسكون، وفي قصائد المجموعة يصغي القارئ إلى الحركة وإلى السكون، وكذلك إلى الفراغ الجزئي والكامل بين الاثنين:
"فجأةً دقّ طبلُ البروق على وقع نهدين ما عرَفا غيرَ طعمِ التّبرعمِ والانبهارِ() صُراخٌ يشقُّ الدّجى تاركا أثرا قانيا في الفراش()وخيطا رفيعا يقود إلى الباب". يذكّرني هذا النوع من الفراغ، وغيره في قصائد هاتف جنابي بأنواع الصمت التي تبلغ مائة وفق الايمان الصيني، وهناك رهبان خاصّون مهمّتهم التفريق بين نوع وآخر، رغم أنها طفيفة جدا، وقد لا يشعر بها أحد. أحسن من يشرح الموسيقى التي (تضبط) قصيدة هاتف جنابي هو الشاعر نفسه. نقرأ في رسالة بعثها لي عبر الماسينجر:
"بصراحة تهمّني موسيقى الشّعر وإيقاعه بعيدا عن الفهم الكلاسيكيّ. كلّ كلمة لها إيقاعها، عندما تكون منعزلة أو مع أخواتها، وكذا الفراغات التي تلعب دورا تشكيليّا وأيضا وجوديّا يخصّ الزّمن والمكان. أحد أشكال علاقتي بالحركات والسّكنات يكمن في استنطاقها وتفعيلها حتى وإن بقيت كما هي. هناك فهم عربي خاطئ وشائع في ممارسة الشعر. الإيقاع داخلي أساسا قبل أن يطفح على السطح. كلما كان داخليا أصبح أكثر عمقا وسرانية".
للشّعر صبْوته، كما أن أغلب قصائد ديوان (ضيف) جاءت بريئة من أمراض الشعر الرائج الآن: التّركيب والتّغريب والشّكلانية الجافّة التي لا تفيد ولا تضرّ. ونتعرّف في هذه المجموعة بالإضافة إلى ما مرّ على القصيدة المتداخلة المتناظرة كما في مرآة: "في الليل أراكَ أو تراني لكلّ روحٍ روامسُها ظِلّانِ من هبةِ الظلامِ".
الفنّ الحقيقي نادر الوجود مثل الأزهار زرقاء اللّون الصّافية، والحديث عنه بكلمات عادية ينزع عنه السّحرَ كلَّه. تحتاج مغامرة هاتف جنابي الشّعرية إلى أكثر من قراءة كي يصل القارئ إلى النّقطة الأبعد فيها، ويتطلّب الأمر رحلات عديدة عبر القصائد لبلوغ هذا الهدف، وهو واحد في النّهاية. وإن صَعُب الأمر في البدء، لكن ما يطمئن في هذا السفر أنه يخلو من أيّما متاهة، ففي كل قصيدة هناك سبيل إلى المعنى. وفي الظاهر، تبدو هذه المسالك متباعدة، لكنها في الحقيقة تلتقي في نقطة واحدة عالية، والكتاب الشعريّ يغدو بالنتيجة أشبه بشجرة سرْو تتّحد أغصانها وتنتظم في قمّة واحدة، تنظر دائما إلى الأعلى قاصدةً الأبيض والأبيض الممحوّ، قاصدةً المرئيّ واللامرئيّ: "أنّى أتجهْ تكن صفحتي البيضاء مجلوّةً بالسديم مختومةً بالغياب يخرقها قلبٌ بسهم".