TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مقاطع من سيرة: ولدت في الحرب والمنفى

مقاطع من سيرة: ولدت في الحرب والمنفى

نشر في: 27 مايو, 2023: 11:47 م

زهير الجزائري

(1-4)

ولدت في ذروة الحرب العالمية الثانية..المدافع تدوّي و الدبابات تزحف مقتحمة الأسوار والبيوت وأنا لا أدري، هانئ بين الشراشف البيضاء التي طرزتها أمي بورود و طواويس وآيات قرآنية. أمّتصّ الحليب بنهم غير آبه بجيوش العالم في خنادقها أو وهي تتصادم بالدبابات،

ولا بقصف المدن وهي تتهدم على ساكنيها. لم أر هذه المشاهد التي أدمنتها لاحقاً، بل أرى أمام عيني مباشرة سحب صفر و بيض تختلط وتتداخل دون أن تتحدد خطوطها الخارجية ويتضح شكل الأشياء.

كنت خائفاً. أبكي كمسعور حين انفصل عن يد أمي كأنني سأفقدها الى الأبد، لذلك تحملني خفيفاً على ذراع واحدة و تبقى طول الليل تدور بي في الغرفة ووالدي نائم يصفر من انفه يحلم بحرب لم يدخلها. حين أسكت تخاف أمي فتنزل اذنيها لتسمع دقات قلبي وهاجس الفقدان يلاحقها.لقد فقدت قبلي طفلة، ولا تريد أن تفقد الثاني…

ولدت مع الحرب زماناً، وفي المنفى مكاناً. تعاطف والدي مع (رشيد عالي الكيلاني) في (دكته) الفاشلة و أعجب بهتلر وجيوشه الزاحفة نحو أوربا، ووضع وسط وجهه النحيل شارباً هتلرياً ولسانه يقول (عدو عدوي صديقي) ولذلك نفي من مدينته النجف الى سدة الهندية. هناك ولدت.

لم يكن للمدينة ملمح مميز.. صفان من بيوت فقيرة يغطيها التراب بينهما سكة حديد. القطار غيّر اتجاهه فنُسيت المدينة بعيدة حتى عن السدة التي سميت باسمها.

الحروب والمنافي صارت قدري وشكّلت حياتي اللاحقة. حرب تمسح آثار ما قبلها ومدينة تمسح بجناح بارد مدينة قبلها. تغيب المدن والبيوت وناسها في ضباب النسيان ثم تخزني فجأة في قلبي:ها أنا! تأتي خاطفة وجارحة مثل قطعة وجع انتزعت من لحم حياتي.

بعد أيام من ولادتي في هذه المدينة المنفى أحسست باصابع أمي وهو تداعب شفتي. حركت فمي الصغير يميناً ويساراً، لكنني لم استطع التقاط هذا الاصبع الرقيق في فمي. كنت اسمع صوتها وهي تكرر: تو تو تو تو… صوتها يوقظ في ذهني حاجة لا أعرفها فأصرخ. الصراخ وسيلتي الوحيدة لتعيين وجودي في هذا العالم الكبير المضيّع بعد أن فقدت الرحم الدافئ الذي احتواني وحدي طوال تسعة اشهر.

الخطوة الأولى

مشيت أول خطواتي في بيت بني بالطابوق، خصص لموظفي الدولة وسط صفوف من بيوت الطين. خطواتي مترنحة فأوشك أن أسقط قبل أن أمسّ الأرض، لكن أمشي لأن يدين ممدودتين لاستقبالي في نهاية رحلة الخطوات العشر. هكذا واصلت المشي في حياتي اللاحقة مع فارق واحد: ليست هناك يدين لاستقبالي، إنما سلسلة من المتاهات…

أتذكر ذلك البيت كما ضوء قطار لمع في الظلمة ثم اختفى. حين قلت لوالدي بأنني أتذكر ذلك البيت نفى بجزم:

-مستحيل! كان عمرك آنذاك أقل من ثلاث سنوات!

ثم بتحد:

-صفه!

-ندخل البيت من دكة بدرجة واحدة وباب تقشر دهانه المصفر، وبعد الباب ممر، على جانبيه غرفتان متقابلتان و.. .

-أسكت، أسكت! من وصفه لك؟

-هل هناك كوز ماء و ناقوط في زاوية معتمة من المدخل؟

- كسره احد العابرين...

-...و نخلة قصيرة وسط باحة البيت؟

-نعم برحية.

قال والدي وهو يعدّل نظارته من عجب ما يسمع.

أتذكر تماما كما لوكنت أراها الآن من وراء الشواش جارتنا (أم فخرية) التي تجلب كل صباح اللبن الرائب والبيض الملطخ بدم الدجاجة...

- مستحيل مستحيل!

لو كنت أجرؤ لفاجأته بأن أمي صرخت وبكت في باحة ذاك البيت لأنها رأته يغازل الشابة فخرية، لكنني لم أغامر لأنني لست متأكداً، هل رأيت كل ذلك فعلاً، أم راودني في حلم. فمنذ طفولتي وقبل ان اصبح روائياً تختلط عندي الأحلام بالواقع اختلاطاً لا فكاك منه، وأحيانا تتفوق صلابة ولوناً. لكثرة ما راودني الطيران في الحلم أو في المشتهي فارقت منذ طفولتي هذا الجسد العالق بي و تخيلتني عالقاً في فضاء قريب من الأرض، أرى الناس من فوق تحت شمس عمودية وخيالهم يدور حولهم، أراهم بوضوح وذهني شارد عنهم.

هاجس الفقدان

هاجس الفقدان رافق طفولتي. فالمنظر المدوّخ للماء وهو يتدفق مدوياً من تحت أبواب السدة الحديدية أدخل أمي في كابوس الماء وهي تحملني بين يديها و لم يتجاوز عمري الأربعين يوماً. طوال طريق العودة بقي الماء يتدفق في خيالها فتبكي: ماذا لو سقط الرضيع من يدها إلى ذلك الماء؟! بالكاد أقنعها والدي وهو يضحك بأنه مازال هنا نائماً بين أيدينا يتنفس ببطء و يتمطق بقايا الحليب. مع ذلك بقي الاثنان ذاهلين خوفاً من قدر آخر بعد ما حصل لأختي (آمال).

أنا شخص مليء بالهواجس. هذا ما أخذته من أمي التي نشأت مع أربع زوجات كانت فيه أمها البغدادية (شريعة) ضعيفة وغريبة. وفي البيت ثلاثة عشر شقيقاً وشقيقة. تنام و في بالها إحساس عميق بالضيم وباقة متشابكة من النمائم النجفية الموجعة وتصحو على صراخ عركة نسائية أو رجالية.

مثلها تداهمني الهواجس قبل أن أنام، تكبر في ظلمة الليل حين يرسم ضوء الفوانيس الشحيح ظلال عمالقة على الحيطان. تكبر وتكتسي لحماً ودما فيدقُّ قلبي بقوة حين أدخل أنفاقها حالما أغمض عيني.

في الصحو تداهمني الهواجس وأنا أمشي فاتذكر فجأة إني أدوس موتى تمور أرواحهم تحتي فاتبع نصيحة أبي العلاء (خفف الوطء)! أبول واقفاً على حائط خرابة منزوية فأرى الحائط الأحدب يميل نحوي فاقطع بولتي باحثاً عن حائط آمن فيميل علي أكثر. أذهب مع هواجسي حدّ التحقق. مرة كنت على دراجة حين رأيت ضابطاً في الشرطة وخلفه ثلاثة أفراد مسلحين. تخيلت وأنا أسابق الريح على عجلتين أني سأصدم هذا الرجل الرهيب ذو الشاربين الشيطانيين الممسك بهراوة: الخوف ساقني إليه، أحاول أن أبتعد، لكن المقود أفلت منّي فاستدارت الدراجة على عنادي إليه فصدمته بين خصيتيه.

٢-جبهتان

العقل المتوجس يسبقني: كنت في بيروت وقد وعدنا (ياسر عرفات) بأيلول ساخن قادم. شقيقاي صبيح وثائر في جبهات الحرب مع إيران. نمت بين جبهتين فداهمني كابوس لن أنساه: أخي ثائر واقفاً أمامي غاضباً وأنفه ينزف. لا يمسح دمه، بل يتوجه لي بنظرة ثابتة غاضبة: أنت السبب! أنا أمامه صغير مبهوت غير قادر على أن أشرح له أسباب عجزي… لاحقاً اكتشفت أن الكابوس تصادف في اليوم الذي قتل فيه ثائر بقذيفة هاون مرت فوق حقول البابونج وأزهارها الصفراء، عبرت الأسلاك الشائكة وحقول الألغام، كمائن الطرفين، قطعت رحاب الموت في (ديزيزفول) وأفلتت النائمين في الخنادق لتصيبه هو بالذات. صرت أصدق هواجسي والسيء منها بالتحديد. حين تتعسر الهواجس استجلبها بإرادتي. أرسم الجحيم مجسداً أمامي بطبقاته السبع و تلفحني حرارته الجهنمية وألمس جمره المتوهج.. أحتاج هذه الهواجس مادة للكتابة. أدخل جحيم هواجسي بكامل جسمي حين اكتب فتتسارع ضربات قلبي و أتعرّق.

ليست كل الهواجس صنع خيالي. واقع القمع المرعب في بلادي يزوّدني بشحنات من الكوابيس، فأرى نفسي عارٍ معلّق بالسقف يداي مكتوفتان خلفي وعيناي غطيتا بالعمى والمحقق يقرأ ما كتبته عنه ويسألني بإلحاح:

-ما معنى هذا؟

يقرأ:يبدأ الجلاد خطوته الأولى…

-من الذي تقصده؟

-…

يجر الحبل فيرفعني قليلا عن الأرض التي تلطخت بدمي…

لم تكن هذه المشاهد من صنع خيالي،إنما تصورا لشهادات سمعتها من رفاقي.

مشاركتي في الثورات المحبطة زودتني بصور الهزائم. نمشي أو نصعد وقد غادرنا الموقع (الى حيث لا تجد السبابة متجهاً).

تستولي علي الكوابيس فتنفي العالم الواقعي الذي أنا فيه فآمر نفسي: توقف!أطرد الكوابيس متلمساً وجودي الفعلي: مع ذلك أنا هنا! على هذه الأرض، كما يقول (محمود درويش)، ما يستحق الحياة. عليّ أن اكتب هذه الهواجس لانتزع مساميرها من داخلي. إذا لم أفعل ستبقى داخلي و تسممني. أحيانًا تصل الهواجس ذروتها من خلال السؤال الكبير الذي طرحه كامو: هل الحياة التي تنتهي حتما بالموت تستحق أن تعاش؟ وإذا كان الجواب سلباً فلم كل هذا الجهد؟! لم تترك كل متع الحياة المتاحة وتبددها بالانهماك المرضي على الكتابة؟

حالما قاربت الشهر الثالث من عمري صرت أعرف أمي. أعرفها بفمي وأنفي، أعرف الطعم الملحي لثديها وطعم حليبها الحلو الفاتر وأعرف رائحتها فاستدل بفمي على منبع الحليب.من رائحتها الملحية و طعم حليبها عرفتها فقلت (ما…) دون ان أكملها.

العودة من المنفى

غادر والدي منفاه وعاد إلى مدينته. وجوه عديدة من الأقارب صارت تتفحصني وأنا نائم في سريري أو ترفعني أمي مفاخرة (أنا ولدته)! أسمع تمتمات لا أفهمها و أحرك يديّ بحثاً عن ملمس الوجوه، لكنها تفلت منّي.. تتالي الحضور والفقدان هذا لازمني في حياتي اللاحقة.. كثرة الوجوه وهي تتزاحم حولي ثم تغيب خلال تنقلي بين المنافي. تتغير معارفي بتغير المدن. مدن تزيح مدن سابقة إلى النسيان ووجوه تمسح وجوهاً فتضيع ومعها الأسماء وهي عنوان الوجوه وهويتها. حين التقي واحداً من جيش المنسيين بعد انقطاع، أحايله و أحايل نفسي(أين التقيته يا ربي أين)؟ أدخل في غمامة ودوار وسيل من الصور ثم تباغتني الأسماء ومعها الأمكنة بعد فوات الأوان فأشتم نفسي ونسيانها اللعين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القضاء يأمر بالقبض على نور زهير ويمهل الكفلاء 13 يوماً لجلبه

بسبب تعطيل مجلس نينوى.. نائب رئيسه يعلن استعداده للاستقالة!

الأنواء الجوية: انخفاض درجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

عالمياً.. النفط يعود للانخفاض بعد 3 جلسات من الارتفاع

السوداني يبدأ زيارة رسمية إلى مصر وتونس

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram