اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > نازك الملائكة والخشية على الشعر الحر

نازك الملائكة والخشية على الشعر الحر

نشر في: 27 مايو, 2023: 11:50 م

د. نادية هناوي

قد نصادف عند نفر قليل من شعراء النهضة الأدبية في أواخر القرن التاسع عشر اهتماما بالتجريب في الأوزان الشعرية ولكن قلما نصادف شاعرا اهتم بالتنظير الفلسفي للشعر بشكل مقصود ومبرر مع أننا لا نعدم امتلاك كثيرين من شعراء النهضة وما تلاهم فلسفة خاصة في قول الشعر والتعبير به عن الحياة.

ولا خلاف في أننا لو أجرينا إحصاء للشعراء الذين كانوا مفكرين نظريا في الشعر على مستوى الوطن العربي أو العالم فلن نجدهم كثيرين ربما لصعوبة الجمع بين الشعر كنظام والتفكير في هذا النظام كدينامية عقلية واعية أو غير واعية وانفعالات سيكولوجية شعورية أو غير شعورية، ذلك أن الموهبة في قول الشعر هي لوحدها تبدو كافية في تحقيق الأغراض المراد من الشعر توصيلها، وبشكل يغني عن تفسير ماهية الموهبة كإلهام واشتغال، فلماذا بعد ذلك يشغل الشاعر نفسه بالتف…

الحديث، أو في استلهام فلسفة الحزن من شاعرين من شعراء العمود هما الخنساء وأبو العلاء المعري كقاعدة عليها تبني ما توارثته الشخصية العراقية من شجن متغلغل فيها تاريخيا وسيكولوجيا فضلا عن الجمع بين رومانسية الشعراء الانجليز وشعراء المهجر العرب للتعبير عن ذاك الحزن المتوارث. ولا مراء في أن نازك نجحت في هذا كله إبداعيا وفكريا وبدرجات تتفاوت بحسب ما مرت به تجربتها الشعرية من تحولات وما صادفته من دعم وتشجيع أو بالعكس من مغالبة وتصاد واستفزاز.

وإذ لم يختلف النقاد والباحثون كثيرا في تقييم تجربة نازك الملائكة الشعرية، فأنهم انقسموا أو بالأحرى قسوا في تقدير تجربتها النقدية حتى أن انقسامهم حولها كناقدة طغى على انقسامهم حول الشعر الحر نفسه. وليس هذا بالغريب فالحساسية النقدية تجعل التصدي لمن يدافع عن شيء أهم من التصدي للشيء نفسه أو لان ما في الشعر الحر من قوة وما عنده من مؤيدين ومحبين، جعل التصدي فاشلا ومن ثم كان المرور إليه من خلال نقد النقد طريقا آمنا.

وإذ لم يأخذ النقد العراقي والعربي كثيرا على نازك الملائكة شاعرة، فانه نال منها كناقدة تضع نفسها موضع المنظرة والمفكرة في قواعد نظم الشعر الحر. فاستطاع بذلك أن يرد لها الصاع صاعين لخرقها عمود الشعر وما أثاره ذاك الخرق من تنظيرات وتحليلات.

ولقد زامنت نازك الملائكة شاعرات أخريات عراقيات وعربيات ولكنها اختلفت عنهن لا من ناحية الموضوعات وطرائق التعبير وكيفيات الخضوع والتمرد على الذكورية، بل من ناحية الاهتمام بالنظر إلى ماهية الشعر نفسه والتفكير في فاعليته الإبداعية. فكانت نازك الملائكة النموذج الرائد في تاريخ الشعر الحديث كامرأة شاعرة ومفكرة في الشعر أيضا.

أما سبب تفردها الرائد فهو في ما غمرها به الشعر من تجربة عاشتها في صباها فرسمت لنفسها آفاق التحرر الحياتي لاحقا، لا بالمعنى الظاهر للحرية بل بمعنى الكينونة الوجودية التي فيها يتغلغل الشعر جزءا من كيان الذات ممتزجا بطبائعها معبرا عن رؤيتها الفلسفية في الوجود.. ولعل سائلا يسأل ما موقع الفلسفة من الشعر؟ كيف تكون للشعر علاقة بالفلسفة؟ وما فرق نقد الشعر وتحليله عن فلسفة الشعر والتفكير فيه؟ ومتى يكون التنظير للشعر مهما كأهمية قول الشعر؟

إن العملية الشعرية فاعلية غير سائبة، بل هي تعمل على وفق قوانين معروفة يتناغم عبرها الشكل مع المضمون، وعادة ما يمارس الشاعر هذه العملية بشكل تلقائي بحسب ما يتمتع به من موهبة وإلهام وما يكتسبه من خبرات كإحساس وحدس ذاتيين، بهما تتعضد تجربته الشعرية وتتحدد من ثم مديات تأثيرها في المتلقين. أما الفقه بموجبات العملية الشعرية وفروضها الإبداعية وطرائق التعبير عنها، فذلك أمر لا يتوفر إلا لمن كان مفكرا في الشعر وما ينبغي ان يكون عليه شكلا ومضمونا، مؤولا دواخل الذات بالنظر والتأمل وهاضما نظريات الشعر، عارفا بتاريخه والمراحل التي مرت به كتحولات وتطورات في عصوره المختلفة.

وإذا كانت غاية ناقد الشعر إنارة القراء من أجل فهم القصيدة وتذوق ما فيها من جمال من خلال مناهج تتفاوت في أساساتها، فان غاية منظر الشعر هي فلسفة هذا الجمال بالارتكان إلى ما لديه من خبرات فنية ومرجعيات ثقافية مختبرا الشعر في ذاته والمجتمع والوجود بلا نهائية في النهج والتجريب ولا نمطية في التفسير والتأويل بحثا عن الجديد والحقيقي. فالتنظير ولا يتأتى إلا لمن كان متفقها في الوجود وخبيرا بعروض الشعر وامتلك موهبة أصيلة صقلتها الدراسة العلمية والحس النقدي المثقف. ومن ثم يكون بمستطاع أي شاعر مفكر أن يكون ناقدا ولكن ليس بمقدور أي شاعر ناقد أن يكون منظرا.

ولقد بدأت نازك الملائكة شاعرة مختلفة، وهذا الاختلاف هو الذي جعلها تدخل منطقة الفلسفة كشاعرة مفكرة لا على مستوى النقد، بل على مستوى النقد والشعر معا. فمنذ نعومة أظفارها ووعيها النقدي يتمظهر في شعرها فلم تقبل السير على ما سار عليه شعراء زمانها والذين قبلهم، بل وجدت أن من واجبها التنظير لهذه الشعر الذي رأت فيه حركة ثورية. أي أن ثورة نازك ليست شعرية تقف عند حدود الإبداع كما هو حال زملائها رواد الشعر الحر، بل هي ثورة فكرية موجهة بطبيعة الحال إلى المجتمع العربي بكل ما فيه سلبيات وأمراض.

وكان سلاحها في فلسفة ثورتها انتهاج الرومانسية، فسجلت بها أول انتصاراتها ونشرت ديوانها(عاشقة الليل) اما الانتصار الثاني فتمثل في ديوانها(شظايا ورماد) وفيه اتضحت فلسفة نازك في التمرد لا على عمود الشعر حسب، بل في التفكير في الوجود حياة وموتا فتطعمت الرومانسية بمسحة وجودية وبهما طورت نازك بنائية قصائدها كشكل وإيقاع. وخلال هذه المراحل من تطور الشعر كانت فلسفة الشعر قد تطورت أيضا كسلاح به واجهت الفكر الذكوري المناهض لثورتها.

وعلى الرغم من أن هذا السلاح كان ماضيا في مواجهة التقولات والانتقادات، غير أن النتائج كانت مخيبة لآمال نازك الملائكة فلقد تصادى معها الوسط الأدبي وهب عليها هبة رجل واحد بعد أكثر من عشرين عاما على قيام حركة الشعر الحر. لا لشيء سوى أنها نشرت كتابها (قضايا الشعر المعاصر) وفيه جمعت دراساتها ومقالاتها التي كتبتها على مدى السنوات الماضية، فاتهموها بالنكوص والارتداد والانكفاء والتراجع والتناقض والتضاد. فهل يعقل أن شاعرة موهوبة وأستاذة أديبة وناقدة اجتماعية وفلسفية تنكفئ أو تكتب على الضد مما إليه توجهت وكرست حياتها من أجله؟ بالطبع لا، فنازك الملائكة التي بدأت حياتها شاعرة ثائرة، وجدت نفسها مسؤولة عن إدامة زخم ثورتها الشعرية بوعي نقدي مدرب صقلته بدراستها الأكاديمية لمنهجيات مدرسة النقد الجديد الأمريكية فشعت إلى أن ترسخ تجربتها وتؤكدها من خلال التنظير لها. وأفادت من تجارب بعض شعراء الانجليز مثل بايرن وكيتس وترجمت بعضا من أشهر قصائدهما واستلهمت منهما أساليب فنية معينة.

ويظل التنظير للشعر الحر هو سبب مناهضة كثير من النقاد لنازك الملائكة، فوجهوا سهام نقدهم إلى كتابها، ولم ينل تحليلها لبنية القصيدة عندهم اهتماما ملحوظا في وقت لم يكن النقد العربي يعرف غير المنهج الفني والنظر إلى خارجيات العملية الشعرية. ولا نستبعد أن يكون للسبب الايديولوجي دور رئيس في تأليب المناهضين والمعارضين.

عموما لم ترد نازك الملائكة على اغلب الانتقادات التي وجهت إليها، واكتفت بمراقبة الواقع الشعري العربي عن كثب فكتبت في مسائل اجتماعية ونفسية لها صلة بالشعر لكن من دون الدخول في مماحكات مع هذا الناقد أو ذاك، فلقد قالت ووضحت واستشرفت وحذرت ووضعت ذلك كله في كتابيها(قضايا الشعر المعاصر)و(سيكولوجية الشعر) وتركت الأمر للزمان يقول رأيه القاطع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram